التشبب، أي التعلق بمرحلة الشباب بعد النزول من قطارها، لم يعد وقفا على عامة الرجال والنساء، فالرئيس الروسي فلادمير بوتين، وعمره 62 سنة، يحلو له الوقوف أمام الكاميرات خالعا قميصه ومستعرضا نصفه العلوي ليؤكد للناس أن جسمه متماسك وخال من النتوءات (الكرش وتوابعها)، أما الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي (52 سنة)، فلم يكتف بخلع القميص، كما فعل بوتين، بل خلع زوجته سيسليا وسار في شوارع ودخل الفنادق مصطحبا فتاة لهلوبة لعوبة اسمها كارلا بروني. وطار منه كرسي الحكم وصارت بروني أكثر حرية في ممارسة الشخلعة من دون أن تلفت انتباه أجهزة الإعلام.
ولا أفهم لماذا السعي للتبرؤ من تقدم العمر مع أن ذلك يفترض ان يكون نعمة. عمرك 50 سنة.. ثم 63 سنة.. وعشت وشفت عيالك متزوجين وأحفادك يملأون الدنيا مرحا وضجيجا، فما الذي يضايقك في ذلك فتسعى لاكتساب الشباب من الناحية المظهرية؟
لولا كبار السن لربما بقيت البشرية الى يومنا هذا في العصر الحجري، بمعنى ان الإنسان يزداد معرفة وخبرة بمرور الزمن، فالشخص الشاب يخطئ كثيرا ويندم على ذلك، ولكنه بعد ان يصير متقدما في العمر يتذكر تلك الأخطاء من دون ان يحس مجددا بالندم لأنه تعلم منها الكثير (للكاتب الانجليزي الساخر اوسكار وايلد مقولة طريفة: الخبرة هي اسم الدلع الذي نطلقه على أخطائنا). هل كان من الممكن ان يقود ونستون تشيرتشل بريطانيا الى النصر لو كان في الحكم وعمره كذا وثلاثين سنة؟ عندما صار رئيسا للوزراء كان عمره 66 سنة، والرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان خاض الانتخابات وفاز فيها وعمره 73 سنة. (قد يستغرب البعض صدور هذا الكلام عني لأنني أردد منذ سنوات طوال أن عمري 39 سنة! لا أفعل ذلك من باب التصابي ولكن لأقول للناس: لا شأن لكم بعدد سنوات عمري).
دعك من كل هؤلاء: هل يعرف التاريخ منذ بواكيره زعيما سياسيا في قامة الراحل نلسون مانديلا الذي صار اول رئيس أسود لجمهورية جنوب افريقيا بعد ان تجاوز الثمانين، ففي شبابه كان مانديلا يؤمن بإزاحة البيض عن السلطة باستخدام العنف، ولكنه بحكمة السنين، ورغم انه خرج من السجن الطويل الى قصر الرئاسة، تخلص من كل المرارات وقاد بلاده الى برّ السلام، وهي اليوم أغنى وأقوى دولة في إفريقيا وناتجها القومي أكبر من ناتج 15 دولة عربية مجتمعة، وتنازل عن الحكم طوعا، بل تزوج وهو في التسعين، وفي استطلاع للرأي كان مانديلا الشخصية السياسية الأكثر احتراما في 120 دولة.
طبعا لمرور السنوات والعمر عواقب بعضها غير سار: أمراض واضطراب في النوم وربما في المثانة، ولكن معظم تلك الأمراض والاضطرابات فواتير مؤجلة من مرحلة الشباب، ومن يهنْ جسمه في سن الشباب يهنْه جسمه عندما يشيخ. وبكل صدق فإنني لست ممن يقولون: ألا ليت الشباب يعود يوما/ لأخبره بما فعل المشيب، فهو لن يعود مهما قلت «وبكيت وشكيت»، إذاً فلا معنى للبكاء على اللبن المسكوب.. وبصراحة: إذا كان ممكنا ان يعود إلي شبابي بكل ما مارسته فيه من شطحات وأخطاء فلن أرحب به، ولست حكيما الآن، ولكنني بالتأكيد أقل تهورا ونزقا وطيشا، كما ان من نعم الله عليّ أنني لست ممن يعيشون على سنام الذاكرة، وهو التباكي أو التباهي بما مضى، وهي عادة عربية جعلت صلاح الدين الأيوبي المثل الأعلى للبطولة لعدة قرون.
طالما عندنا صلاح الدين سلفا فما الحاجة الى الاقتداء به أو الإتيان بمثله؟
jafabbas19@gmail.com