وأُشير هنا تحديدا للنسخة الأخيرة من برنامج (حتى تكتمل الصورة) التي اجتهدت أن تقرأ واقع صناعة الصحافة ومستقبلها في ظل معوقات عديدة.. الحلقة التي استضافت الأخ السفير مروح الأمين العام للمجلس القومي للصحافة والمطبوعات، ورئيس الاتحاد العام للصحفيين السودانيين الأخ الرزيقي، كما استنطقت آخرين ذوي صلة بالموضوع من شركات الطباعة والتوزيع.. ثمة أسباب عديدة أُريقت في ثنايا الحلقة ساهمت في تراجع وتدني توزيع الصحف وارتفاع كلفة صناعتها.. غير أني أجد نفسي مشدودا لسبب واحد محوري يتعلق بـ (انصراف أجيال بأكملها عن التعاطي مع الصحف الورقية) لصالح الصحافة الإلكترونية.. على أن الأجيال التي كانت تنزل في الصباح لتبدأ يومها بالجريدة هي تتناقص.. وفي المقابل إن أجيال التقنية في تنامي وازدياد مضطرد.. لا وقت الآن لأجيال الواتساب بل ربما لا مزاج لهم ولا سعة لينفقوا من وقتهم حركتين أو قل ثلاثاً للتعامل مع هذه السلعة الورقية.. مرة أن تنزل إلى المكتبات لتشتري الصحيفة، ومرة ثانية أن تستقطع وقتا للقراءة الورقية ومرة ثالثة استقطاع جنيهات من مصروفات محدودة لشراء الصحف.. فجنيه واحد يمكن أن يضع الدنيا كلها على شاشة هاتفك الذكي.. فضلا عن أن المادة المنشورة ورقيا نفسها لم تعد من اهتمامات هذه الأجيال.. ربما أن أكثر من ستين بالمائة من جماهير الشعب هم من فئة الشباب الذين لم تعد تطربهم وتستقطبهم موضوعات على شاكلة الحوار الوطني والمفاوضات وما ينتجه السياسيون ويضخه الحكوميون.. فهذه الأجيال تعيش في عالمها الافتراضي اللا محدود.. وهنا ثمة أزمة أخرى تتعدى انهيار الصحافة الورقية إلى خسارة فقدان أجيال بأكملها في ميدان الهم الوطني.. غير أن الأخطر من هذا كله أن الذين يغزون عقول هولاء الشباب من المدونين.. لم يعودوا هم الآخرون صحفيين محترفين يخضعون لمعايير مهنية وأخلاقية ويحاسبون من قبل مؤسسات ضبط معروفة.. فيزداد الأمر تعقيدا لما يصبح متاحا للجميع أن يدخلوا إلى هذه الوسائط ويدونوا ما يشتهون على غير هدى ومسؤولية.. و..
وعليه، إن الأمر لم يكن مجرد خسارة لصحافة ورقية تخضع لمطلوبات أخلاقية ومهنية احترافية وضوابط مؤسسية فحسب، بل إن الخسارة أفدح وأجيالا بأكملها تهرب إلى عالمها الافتراضي بما يشبه أحلام يقظة المدينة الفاضلة.. المسألة عندي أقرب إلى (معاقرة التخدير الثقافي) الذي يغيب الشعور الوطني والمسؤولية القومية !!
شيء آخر.. التهنئة موصولة للإخوة الزملاء في مدرسة (اليوم التالي) الصحفية.. لإحرازها هذه المرتبة المتقدمة في التصنيف الصحفي الأخير.. وأقول (مدرسة) لها خطوطها وطابعها ومنهجها.. شكلا ومضمونا.. بل وعلامة فارقة في عالم صناعة الصحافة السودانية ونقلة مقدرة باتجاه الصحافة العربية والإقليمية.. وأتصور أن رأس المال الحقيقي لمدرسة (اليوم التالي) يكمن في أن سقوفات الحركة فيها واسعة ومرنة.. سيما على رأسها رئيس تحرير يستوعب جيدا ثقافة تحريك الخطط والسيناريوهات داخل الملعب.. لتسديد كرات متقنة قادرة على وصول الهدف مع إيمانه أن الهدف يصنعة أحد عشر لاعبا وأجهزة مساعدة.. ذلك فضل يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم..