من عجائب موهبة الشعراء في السودان قبل سنوات مضت، أن الشاعر كان بإمكانه كتابة قصيدة تبقى لخمسين عاماً في خمس دقائق فقط، أما الآن فالشاعر يكتب قصيدة في خمسين عاماً لتُنسى بعد خمس دقائق فقط.!
صديق ساخر قال لي بعد أن صمت قليلاً: (احتمال المشكلة في الرغيف).!..ولعله كان يقصد الأوضاع الاقتصادية ويحاول أن يربط ما بينها وبين تردي مستوى الشعر في السودان، وربما كان معه حق، خصوصاً ونحن نطالع يومياً شاعراً يقتاد فناناً شاباً للمحكمة للمطالبة بحقوقه الأدبية والمادية، (والأخيرة هذه أهم بكثير من الأولى).
وفنان شاب يقسم لي بأغلظ الأيمان أنه حاز على تنازل لأغنية (شهيرة جداً) من شاعر كبير بعد دفعه لمبلغ (500) جنيه فقط هي قيمة تغنيه بالأغنية لمدة ثلاث سنوات..!…وهكذا يباع التاريخ بأبخس ثمن وفي (سوق الله أكبر).
والأغنيات الجديدة لشعراء كبار ربما صارت اليوم تؤكد على الحديث أعلاه، وتعضد ما ذهبنا إليه من انحسار الموهبة عن النصوص في هذا الزمان، والفنانون الشباب (يبصمون بالعشرة) على الحديث هذا ويعودون عشرات السنين ليتغنوا بـ(أقابلك وقصتنا والذكريات)، وعندما تسألهم لماذا لا تغنون غناء عصركم، ينبري لك أقلهم موهبة ويقول واضعاً سيجارته على فيه: (والله غناء زمان دا فيهو سر غريب خلاص)..ويصمت قليلاً قبل أن يضيف: (غناء اليومين ديل ما جايب حقو)، هذا فيما يختص بالفنان الشاب الذي يبحث عن ديمومة وعن تاريخ، أما الغالبية العظمى من الفنانين الشباب فقد هاجروا لمدائن الأغنيات الركيكة و(الدكاكينية) واستوطنوا هناك مؤسسين لامبراطورية جديدة تحكمها (الصولة)، ويسيل لُعابها لـ(هز الوِسط).
جدعة:
مشكلة الشعراء في السودان مشكلة كيان فني كامل افتقد للكثير من الصفات القديمة من تسامح وإخاء وحب ومودة، ومشكلة بعض الشعراء السودانيين الكبار اليوم تكمن في إحساسهم العالي بـ(أوراق البنكنوت) وفقدانهم لذات الإحساس أمام المشاعر والعواطف والإحاسيس النبيلة ، أو كما قال لي ذلك الشاعر (القطيم): (يا أخوي المشاعر دي حتأكلنا عيش..؟)..وبذلك نعود لتفسير صديقي عندما قال إن مشكلة بعض الشعراء الكبار في السودان تكمن وبكل وضوح في (الرغيف).!
شربكة أخيرة:
هنيئاً لـ(شعراء الغفلة) و(الجبجبة)، فليسرحوا وليمرحوا طالما إحساس بعض الشعراء الكبار بات لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال (الرغيف).!