شجرة الكلاكلة

عمرها يضارع عمر النيل الأبيض وربما يساويه.. شجرة (خُريم) تقع على ضفاف الرميلة. زرتها الأسبوع الماضي فوجدتها نفسها تحدق في النيل الأبيض فيبتسم لها ويحييها السمك والصدف وتحييها شباك الصيادين، هذه الشجرة شهدت ميلاد شعري فأول قصيدة دشنت بها جنوني كانت تحت ظلها، كان صيفاً ونهاراً فائراً وأنا في العام السابع عشر ممتلئا بكل الرومانسية ويتهيأ قلبي لطريق الجمال بعد أن امتلأت سعته بالمحبة للحياة.. ولهف في تلك الأيام الباكرة من ربيع الشعر لا يحتمل الموضوع الشعري إلا الصبايا والصبابات والتوجد ولا يستوعب العقل إلا الأشعار الرطيبة والغزليات وقد شهدت تلك الشجرة أول محاولاتي وجعلت من أغصانها وأوراقها وشوكها وظلها شهوداً لذلك المأزق.
قدمت لزيارتها بعد أن طافت بي التجارب وتشربت بمياه كثيرة جرت تحت أقدامي وانضويت لأحزاب كثيرة وخرجت منها، وسافرت وتجنست وعدت، هي بذات ملامحها ونفس أوراقها كأن العمر لا يفعل بها مثل ما فعل بي، كأنها تكبر خارج محيط العمر والسنوات، لا شيب في أغصانها ولا تجاعيد على هامتها وتحرس نفسها بالشوك وتدافع عن شرفها بالغصون، لهذه الشجرة دالة علي في غير الشعر فقد أنقذت حياتي ذات مرة ودرأت عن جسدي مخاطر سم ثعبان، كان الوقت نهاراً عام 73 وكنت أقرأ ديوان محمد الفيتوري (معزوفة لدرويش متجول) كنت أفترش تحت ظلها (برشا) وأسند رأسي على ساقها بمخدة وانسكب في الشعر:
ويحي وأنا أتلعثم نحوك يا مولاي
هل أنت أنا؟
يدك الممدودة أم يدي
تبكيني أم أبكيك
في حضرة من أهوى
عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجه
ورقصت بلا ساق
حين بلغت هذا الشأو الشعري الذائع والديوان في عامه الأول أحسست أن جسدي ينمل وشممت رائحة غريبة وكانت فروة رأسي تنقبض والشجرة كانت تهتز وتتمايل فروعها كأنها تدق أجراس انتباه حدقت في أعاليها بعد أن حررت رأسي من المخدة فإذا بثعبان طويل أسود ومخطط كان يتجه قبالة رأسي لينفث في جمجمتي السم الزعاف.. سحبت البرش وهرولت ومنذ ذلك العام لم أتمتع بأشعاري تحت تلك الشجرة. وكلما سمعت هذا الشعر بصوت عبد الكريم يرتعش بدني مرتين، من الشعر مرة ومن الثعبان مرة أخرى وبين الرعشتين يرعشني صوت عبد الكريم.
الشجرة في تمام عنفوانها وأنا في تمام الانهيار أسأل ربي أن أتوافر بخصائصها كي أستبين على ذات التماسك.

Exit mobile version