تبدت حيرتي في اختيار عنوان لهذه الزاوية بعد حديث الرئيس “عمر البشير” أمس في كادقلي هل العنوان الذي يناسب الحدث (انقلاب جديد) أم (ثورة جديدة) لما كان السودانيون مولعين بالثورات وأكثرهم كارهين للانقلابات وتبعاتها.. كان خيار الثورة راجحاً للحديث عن أهم خطاب لرئيس الجمهورية في السنوات الأخيرة بعد خطاب الوثبة الذي تربص به المتربصون فأوردوه المهالك!
وقف الرئيس أمس أمام شعبه في مدينة كادقلي التي تشهد من حين لآخر زيارات لقاذفات التمرد من (الكاتيوشا) والراجمات.. وقف شامخاً معلناً الانحياز للسلام عبر التفاوض بعد أن استشعر الرئيس ما يطلبه المواطنون الذين توافدوا لاستقباله منذ الصباح الباكر.. هاجرين متاجرهم وحصاد مزارعهم ومواقع أعمالهم ليقولوا كلمتهم لرئيس الدولة ومرشح الأحزاب (المؤتلفة) لدورة رئاسية تمتد لخمس سنوات قادمة.
قالها الرئيس بثقة في النفس وعزم على الفعل إن خيار التفاوض مع حاملي السلاح هو برنامج الحكومة لما تبقى من العام الجاري وأن السلام من خلال المفاوضات أقل كلفة من سلام يتأتى عبر البندقية وقعقعة السلاح وقدم عهداً لمواطني كادقلي بأن تحقق الحكومة السلام وتنهض بالتنمية وتعيد النازحين في المدن لقراهم وتزرع الأرض التي تسكنها الألغام وأدوات الموت بالقطن المحور وتعيد دوران مصانع النسيج التي توقفت.. وإكمال الطريق الدائري الذي تعطل.
إيقاف الحرب من خلال التفاوض هدية لكل الشعب السوداني الذي مزقت أحشاء أمهات السودانيين نزيف الدماء وحاق بسكان المدن والأرياف الضيق في العيش والكدر والشقاء.. ونقص الثمرات.. وغياب الحرية وانقسام الصف الوطني ما بين موالٍ للبشير ومنافح عنه وموالٍ لحاملي السلاح والمتربصين بمن هم في السلطة.
وقف الحرب قضية إنسانية لشعب شقي لعشرات السنين.. وجاء وفقد الأمل في الحياة وطيبها.. ووقف الحرب يعني ازدهار الحرية وتنامي ثقافة القبول بالآخر.. وتحسن العلاقات الخارجية وتواصل السودانيين مع غيرهم من الشعوب والاستفادة من ثمرات العلم الإنساني والتقانة الحديثة وأن يغني المغني ويزرع المزارع وتزدهر الصحافة.. وتنمو معدلات الفرح وتنحسر مكدرات الحياة.
عندما أعلن الرئيس “البشير” موقفه الجديد أمس في كادقلي كان مدركاً لأهوال الحرب وتبعاتها ومآخذها .. وهو الذي خاض الحرب مقاتلاً.. وتذوق مراراتها وأدار الحرب وهو رئيس ويعلم حجم الإنفاق وإهدار الموارد في ما لا طائل منه.
بعد مغادرة الرئيس لكادقلي أمس دبت في نفوس الأهالي آمال وتطلعات بأن ليل الحزن سينقشع.. وفجر الحرية والسلام والنوم قرير العين قد تسرب ضوءه الخافت من بعيد جداً.. فهل يجد موقف الرئيس المعلن استجابة من الطرف الآخر.. وهل يعتبر المفاوض الحكومي إرادة السلام عن القيادة هي الغالية.. وبالتالي تعزيز دعوة الرئيس بمواقف جديدة وأطروحات جريئة تخاطب المشتركات بين الطرفين وتنهض بالمفاوضات من الهوة السحيقة التي تردت فيها خلال السنوات الماضية حتى كاد السلام أن يصبح هو المستحيل.. قبل أن يضئ الرئيس شمعة الأمل في ليل طويل.. صامت موحش.