احساس غلبنى اتحملو.. تأويل احتراف الغناء.. إرادة المولى رادتني وبقيت غناي

وقُلْتُ أَنا لنفسي: لا غُموضَ ولا وُضُوحَ.. السروة انكسرتْ، وهذا كُلُّ ما في الأمرِ: إنَّ السروة انكسرتْ, وهذا كل مافي الأمر: إن السروة انكسرتْ كنت قد قلت في طفولتي الباكرة إنني أحب كرة القدم أكثر من حبي للغناء وموسيقاه، وكنت – لرقة في عقلي وبساطة – لا أتورع من الجهر باعتقادي الساذج في القول إن القوة البدنية وعنف الأرجل والتدافع بالأيدي هي الطرق الأنجع لتحقيق الذات وحوز الخلود. أذكر أن وردي كان تغنى بحرقة: “من زي ديل وا أسفاي
من ناس ديل واا أسفاي.. إرادة المولى رادتني وبقيت غناي!!”
أذكر تحريضه لخالي أحمد على حمل (شريط كاسيت) مدته تسعين دقيقة.. كان في الأصل حفلاً غنائياً ضخماً يخص وردي، إقامه، إن لم تخني ذاكرة الطفولة، في مهجر له، أظنه كان في ليبيا أو اليمن الجنوبي في سبعينيات القرن الماضي، رفع فيه كتفيه بالغناء ما شاء لهما أن يرتفعا، وهي عادة في وردي أن يرفع كتفيه كما لو أنه يضبط زمن اللحن الداخلي، ثم ألزم أحمد، بأصالة فيه، أن يسمعني كلمات الشريط حرفاً حرفا، وموسيقاه نغمة نغمة، وأذكر أن وردي نزف فيه نزفاً باذخاً من نشيد الغربة الأسيف:
“وكان تعب منك جناح، في السرعة زيد
في بلادنا ترتاح، ضل الدليب أريح سكن”!!
من صوف راسي لكرعي
نعم يا وردي، لقد حط طائرك المهاجر، ومرَّ علينا غرفة تلو غرفة.. يدخل من الباب ومن الشباك ثم لا يخرج. كنت أنا طفلاً لكنني أعرفك.. لقد كنت سطراً أوَّل من رسالة ما، كتبتها فتاة ما قدر، لها أن تكون أمي، لرجل ما، قدر له أن يكون أبي. وهل كانت تلك الرسالة غير:
وكت شفتك، شعرت الرعشة من صوف راسي لي كرعي..
ومن الساعة ديك يالسمحة
ولع فوقي جمر الغي
كتمت الريدة ما شافوها
ناس الحي
وقلت الجنة عاد إن شاء الله
ما يقسن دروبها علي”
فهاهو أنا تلك الريدة المخباة
انزواء المجاز وانطلاق المُرسل
لكنني كبرت يا وردي، وانزوت مجازيتي التي كنت تغنيها في أغنياتك الملهمة. كبرت يا وردي، وكبر فيَّ إجلالك، وعرفتُ بوضوح وحسم، كم هو عزيز أن تخلد بالفن!! وكم هو أعز أن تحيا بعد انقضاء عمرك البايلوجي، لتذكِّر الناس أن لله نبي كانت معجزته عزف المزامير.
لكن يا وردي، يا الذي لا يملك غير طيبة قلبه، اخترت أن تعيش خالداً متفرداً، وتوصد دوننا أبواب الفرح الأربعة، وتبقينا ورثة للحزن، وفرائس لحرقة الموت اللاهب. أُفٍّ للموت، لقد كنت مديته التي ذبحنا بها من القلب يا وردي.. تيتم حلو غنائنا حتى صار فينا غرضاً يرمى وصيداً لصائد. لقد بتنا بعدك (سميعة) بالفتوة لمغنين شيدتهم خبرة طويلة في (مباراة) الربح المحض، لهم أغنيات مثل قرش النحاس الممسوح، أو العظم الممصوص اليقق. لا تكاد تتبين ملامحه، ولا قيمة له في سوق الحق والخير والجمال.
مستقيماً كالحقيقة، أبيض كالحليب
آه بالأمس رأيتهم يحملونك على الأكتاف والسواعد، كنت الأعلى فيهم جميعاً، مستقيماً كالحقيقة وأبيض كما الحليب.. هم دفنوني أنا يا وردي وتركوك قائماً تحرض بنشيد الحرية البلجاء.
“يا شعباً تسامى يا هذا الهمام
تشق الدنيا يا ما
وتطلع من زحامها
زي بدر التمام.”
فمثلك أنت ليس يسكن قبرا!!

اليوم التالي

Exit mobile version