السودان سلة غذا العالم.. سقوط الشعارات القديمة

مهندس زراعي: عوامل عديدة تحول دون تحقيق شعار سلة الغذاء العالم أبرزها عدم توفر مراكز لنقل التقانة وسياسات التمويل
البساتين الزراعية تساهم بــ 12% فقط في الدخل القومي وهي مساهمة لا تتفق وحجم القطاع
مختص: النزاعات بين المزارعين الرعاة سبب تلف المحاصيل
خبير: إشراك المزارع بسلسلة إنتاج القيمة
في عام 1974م من القرن الماضي أورد تقرير أممي أعدته منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) عن حالة الغذاء في العالم، مشيراً الى أن السودان واستراليا وكندا هي سلال العالم من الغذاء، في مجال توفير الغلال والحبوب الزيتية والمنتجات الحيوانية، لما لهذه الدول من إمكانات طبيعية. وفي هذه البلدان تتوفر الأراضي الزراعية الشاسعة الخصبة الصالحة للزراعة، والمناخات المتعددة التي تضمن أكثر من موسم زراعي خلال العام، ومياه نقية ومتعددة المصادر. وحسب تقارير المنظمة ذاتها فإن استراليا وكندا استطاعا تحقيق القدر الأكبر مما هو مطلوب منهما في عملية توفير الغذاء للعالم، ويكفي أنهما صارا من أكبر مصدري القمح في العالم. كندا تصدر كميات كبيرة من القمح وتمنح كميات أخرى للعمليات الإنسانية الواسعة في العالم، واستراليا تسد جبهة عريضة للنقص في غذاء العالم. أما السودان فلم يتحرك قيد أنملة في اتجاه تحقيق تلك المقولة المحفوظة عن ظهر القلب في البلاد، فهل لا زال السودان سلة غذاء العالم؟ وإن كان كذلك فلماذا اختفى هذا الشعار وغاب عن أحاديث العامة والمختصين على السواء. “التغيير” نقبت في الأسباب والعوامل وتساءلت؛ هل يمكن لهذا الوطن الممتد من البحر الى البحر أن يحقق شعاره القديم أم سقط في ظل الظروف الاقتصادية العصيبة التي يعيشها، هذا ما سنتعرف عليه من خلال السطور التالية :
أزمات مادية
بداية البحث عن الإجابات كانت مع المهندس الزراعي عماد الدين علي إدريس الذي وصف السودان بالسلة الكبرى رغم وجود تحديات جمة متمثلة في قضايا الإنفاق المالي على المشروعات الزراعية، وقال محدثي “الزراعة بمختلف قطاعتها تعاني الإهمال الكبير بالوقت الحالي ولا وجود لاهتمام حكومي ينصب نحوها فلا تخصص لها ميزانية مناسبة لإكمال مشاريع التنمية ولا تتوفر الأموال اللازمة لدعم البحوث الزراعية في حين أن الأموال التي سبق تحصيلها من البترول وعمليات استخراجه ونقله وعائداته لاحقاً لو تم صرف ربعها على القطاع الزراعي لغذى السودان العالم، فعلى سبيل المثال تقدر مساحة البساتين بـ2% من مساحة الدولة الكلية لكن مساهمتها في الدخل القومي لا تتجاوز الـ12% وهذا يدل على قلة الاهتمام بهذه المساحات الزراعية الهامة، وفيما يتعلق بالمهندسين الزراعيين ودورهم الهام في دفع عجلة التنمية الزراعية، فنقول بأنهم مؤهلون للقيام بدورهم على أكمل وجه لكن قلة الإنفاق عليهم وعدم توافر فرص العمل ذي العائد المادي الملائم، دفع بأكثرهم للهجرة فاحترمتهم الدول الأخرى وتعد خسارتهم فقداً كبيراً للوطن. جانب آخر كان له دور بارز في التراجع الزراعي بالسودان؛ تمثل في كثرة تغيير أنماط الزراعة ويعود السبب لتغيير الوزراء والمسؤولين عن القضية عاماً بعد آخر وما إن يبدأ وزير ما في خطة زراعية جديدة حتى يأتي آخر ويقوم بتعديلها أو إلغائها فلا تأخذ أي خطة إستراتيجية زراعية الزمن الكافي، كما أن أغلب البرامج المنفذة لا علاقة لها بالواقع؛ الشيء الذي يعكس غياب الأفكار الزراعية لدى هؤلاء المسؤولين في وقت ينصب فيه اهتمامهم على مصالحهم الذاتية”.
ما ذكره المهندس (عماد الين) قادني للقطاع المطري التقليدي؛ حيث التقيت هنالك بالسيد الرشيد الدومة فضل، عضو مشروع دعم صغار المنتجين بالقطاع المطري التقليدي ليحدثني حول تجاربهم وأهم العقبات التي تقف أمامهم لنحظى بإنتاج زراعي وغذائي وفير، فقال في مستهل حديثه معي ” توجد العديد من العوامل التي تحول دون تحقيق السودان لشعار سلة غذاء العالم في وقتنا الراهن، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، عدم توفر مراكز لنقل التقانة إضافة لسياسات التمويل وهي قضايا متشابكة تتداخل فيها أطراف شتى، فيما يتعلق بالقطاع المطري التقليدي تم إدخال تقانات حديثة لصغار المنتجين بغرض تحسين الإنتاج والإنتاجية وزيادة المحصولات الزراعية والنقدية وتحسين الإنتاج الحيواني إضافة لدعم المزارعين وتشجيعهم في تحضير الأرض وتعريفهم بالأساليب الحديثة في التطعيم وتغذية الحيوانات، وبرغم هذه الخطوات المتقدمة إلا أن العديد من التحديات تحول دون استدامتها، وهذا خوف مشروع يراودنا”، قاطعته قائلة “كيف يتم ذلك” فقال شارحاً “سينتهي مشروع تمويل صغار المنتجين بحلول العام 2018م وكان قد استهف قرابة الـ17.500 فرد ويكمن الخوف في الإجابة على سؤال الى أي مدى سيتم تطبيق التقانات الحديثة ومدى استمرارية المزارعين في التمسك بالنهج والمشروع مطبق بالمحليات الأكثر فقراً بالسودان وهي الدندر وأبو حجار والدالي والمزموم، وهي أماكن تعاني من الفقر العام بجميع نواحي الحياة الأمر الذي يشكل تهديداً لاستمرارية المشروع”.
نزاعات
الحديث الذي دار حول أكثر المناطق فقراً دفعني لإلقاء الضوء على أوضاع المساحات الزراعية بالولايات والبحث عن أهم المتاعب التي تواجهها، فقصدت ولاية سنار وتحدثت مع السيد نزار الهادي؛ المهندس بوزارة الزراعة بالولاية، فقال “تمثل رقعة الأراضي الزراعية بولاية سنار حوالي 60% من مجمل المساحة الكلية وتتوفر لدينا مصادر للمياه، لكن المشكلة الحيوية تكمن في توفير المدخلات الزراعية والسياسة المتبعة من قبل الدولة تجاه المزارع مثل استقطاع الرسوم المالية منه ورسوم الأجرة السنوية للأرض، كما أن المزارعين أنفسهم لهم سياسات خاطئة متعلقة بهم تشكل عقبة أمام الازدهار الذي نرجوه مثل عدم استخدامهم للتقانات الحديثة رغم توفرها وغياب دور الإرشاد الزراعي الذي يقدم المعلومة الصحيحة فيساعد بعد ذلك بزيادة الإنتاجية. أما الكادر البشري الذي يؤدي دور الإرشاد فهو موجود بجميع الوزارات، لكن ضعف الإمكانيات المادية يحول دون القيام بالدور المطلوب وتعيقه وسائل الحركة والنقل المرتبطة بتوفير الأموال، ولاية سنار تبرز على سطحها مشكلة هامة وشائكة تعيق التقدم والنماء الزراعي؛ تتمثل في النزاعات بين المزارعين والرعاة فأغلب المساحات المزروعة يتم إتلافها بواسطة الرعاة وتم تخطيط مسارات من قبل الجهات المسؤولة لكن لم تتم بعد عمليات التنفيذ، هذا التأخير ساهم في ازدياد حالة الصراعات رغم أن المسار الواحد يبلغ عرضه 2 كيلو متر وفتحه يسهل الحركة للرعاة ويوفر المحاصيل ويقلل تلفها بنسبة 50%، كما إن إهمال القطاع المروي يشكل تحدياً كبيراً ولا توجد به بنى تحتية أو قنوات ري جيدة، لذا يزدهر إنتاج القطاع المطري ويقل المروي في حال عقدنا مقارنة بينهما “.
قضية كبرى
لازلنا نتجول في أرجاء الوطن والمحطة التالية كانت مع ولاية البحر الأحمر؛ حيث التقينا مدير عام وزارة الزراعة والثروة الحيوانية المهندس (عصام الدين عبد الرحيم سوركتي)، متحدثاً للقراء بالشرح قائلاً “لا يزال السودان يملك قدرات هائلة ليصبح بالمستقبل سلة غذاء، ففيه إمكانيات جغرافية هائلة ومناخ متعدد يتيح إمكانية زراعة المحاصيل الحقلية والزيتية والسكرية والخضروات بأنواعها المختلفة ليغذي أفريقيا والعالم العربي وما سواهما. ما ينقصنا هو التخطيط، وظهرت مؤخراً مسألة تضارب المصالح والسياسات وهي من أهم أسباب فشل الخطط والبرامج التنموية، كما إن الدولة ما عادت تتبنى سياسات تضع الزراعة ضمن أولوياتها، ففقدت هذا القطاع الإستراتيجي وتأرجح السودان يمنة ويسرة باحثاً عن مخارج لأزماته، وبغرض تحسين الوضع الاقتصادي ككل، لنعود بالذاكرة الى الوراء قليلاً ونذكر النفط. فبعد الانفصال لم نتحصل على فائدة منه ولم تدخر الأموال الكافية لبناء منظومة بنى تحتية خاصة بالزارعة، وهي حقيقة لم توجد بالقوة الكافية منذ البداية لتغطي غياب سلعة إستراتيجية مثل النفط، فأصبح السودان غير قادر على مواجهة التحديات الاقتصادية الصعبة ويشبه الركض خلف النفط وإهمال الزراعة المثل القائل عصفور في اليد ولا عشرة فوق الشجرة، فنحن طاردنا النفط ونسينا القطاع الزراعي ففقدنا الاثنين، لذا نقول إن توفر المياه والجغرافيا والمساحات الشاسعة لا يمكن الاستفادة منها دون توافر إرادة سياسية قوية وإعادة هيكلة وبناء المشاريع الزراعية التي أُصيبت بالشيخوخة مثل مشروع الجزيرة حتى يخرج السوان من الكبوة الاقتصادية ويتصدر العالم في منتاجاته الزراعية. الجدير بالذكر أن الملك عبد الله آل سعود عليه الرحمة كان قد أطلق مبادرة الأمن الغذائي بالوطن العربي قبل عامين، وكان السوان أحد مكوناتها الأساسية، وهذه النقطة تشير لما للقضية موضوع الطرح من أهمية إستراتيجية وأمنية على الصعيد العربي والمحلي “.
رسالة إرشاد
وجلست إلى الدكتور محمود عوض مكي بهيئة البحوث الزراعية بغرض الحديث المفصل عن الواقع الزراعي، فقال: “تكمن المشكلة في الميزانية المخصصة للزراعة فهي نقطة في بحر كبير ولا تأتي في أولويات الدولة، كما أن القائمين على القطاع الزراعي لم يغيروا في مفاهيم المواطن العادي وبنية تفكيره العام كث يتم خلق استعداد فيه لتبني التقانة الحديثة وتحويل الزراعة من نشاط معاشي الى نشاط اقتصادي، وهذا يتطلب جهداً في تغيير نمط التفكير السائد، كما لابد من تنظيم المنتجين في مجموعة من التنظيمات المجتمعية القوية ودعمها بالتدريب وتغيير المفاهيم ورفع قدرات المزارعين وتمويلهم وربط عمليات التمويل بتطبيق حزم التقنية كل حسب إمكانياته، فمثلاً مزارع الإنتاج الحيواني يطبق التقنية الخاصة والملائمة معه، على المستوى الكلي فإن الفصل بين الوزارات والتخصصات اضر بالعملية الزراعية فيجب أن تكون وزارة الزراعة والثروة السمكية والحيوانية مدمجة في هيئة واحدة لتفادي التضارب في القرارات وتخطيط المشاريع بعقلية واحدة غير مشتتة، كما أن التنسيق يصبح أكثر سهولة بغرض تكامل وتكميل العمل الزراعي وفي حالة التدخلات الجديدة لابد من الإلمام بالمحتوى القديم لبناء أية تدخلات تنموية حديثة”، وتابع الدكتور (مكي) حديثه بالقول “في الماضي كان القطاع التقليدي يعمل فيه قرابة الـ70% من مجمل السكان ويعتمد على العمالة الأسرية، وفي ظل الانفتاح الحالي فقدت بعض الأسر هذه العمالة والفائدة العائدة من ورائها، لذا نقول بضرورة الاستفادة من التكنولوجيا أو ما يعرف بالتقنية الوسيطة المناسبة ليتمكن المزارع من زيادة إنتاجيته، من ناحية أخرى نشدد على ضرورة توحيد الرسالة الإرشادية خاصة بالقطاع التقليدي لتصبح كاملة ومتكاملة لأن المزارع يعتمد على أنشطة مختلفة في مجال النبات والإنتاج الحيواني والبستاني والصمغ العربي وعندما تكون الرسالة الإرشادية موحدة ومتكاملة يسهل العمل مع ضرورة التنبية لعدم التحيز والتضارب بمحتواها، وقبل استنباط أي نوع من أنواع التقنية الحديثة علينا إحضار وتكيل فريق متنوع المهارات والتخصصات للخروج بتوصيات متكاملة، وفوق هذا وذاك لابد من وضوح الرؤية المتعلقة بسياسات الدولة منذ البداية وتوضيح العوائد المتوقعة من المحاصيل المزروعة وهو ما يسمى بسياسة تركيز الأسعار في الدولة فإذا حددت على سبيل المثال تركيز سلعة القمح بـ400 جنيه قبل 4 أو 5 أشهر من بدء موسم الزراعة، فإن ذلك يحفز المزارع على رفع إنتاجيته من ناحية الكمية وجودة النوعية وبذلك تضمن الحكومة إنتاجاً زراعياً وفيرا، هنالك أمر غاية في الأهمية وهو ضرورة إشراك المزارع نفسه في عمليات إنتاج البذور الملائمة للبيئة عبر إدخال ما يعرف بسلسلة إنتاج القيمة ونعني بها التمرحل في مختلف العملية الزراعية التي تشمل التسويق والتخزين وتصنيف البذور والتعبئة على أن كل ما سبق ذكره بلجان المزارعين وتنظيماتهم”.

التغيير

Exit mobile version