*كنت أجلس ذات فجر وضيء إلى ثلة من الكوادر التي ألقت بهم ثورة الاستوزار إلى قارعة الطرقات، وهم يومئذ لا يزال عندهم الكثير الذي يمكن أن يبذلوه لهذا الوطن المثقل بالجراح، والمبتلى (بالحلول العاجلة الفطيرة) والتجريب المتسرع، ذلك لكونهم يرقدون على مستودعات هائلة من الأرصدة التراكمية والخبرات والتجارب المهنية في كل المجالات.
*فلنتعلم من الأقربين من تجارب الشقيقة مصر، أو كما يحلو لنا (في مصر القريبة دي)، معظم الكوادر والخبرات والخبراء يبدأ تاريخهم الحقيقي عندما يذهبون إلى المعاش ولا تقاعد، والتقاعد والمعاش الذي هو في بلاد النيل والشمس والصحراء كما لو أنه نهاية التاريخ، فالمؤسسات الفكرية والإستراتيجية هناك تتسابق في عمليات تخطف الكوادر المعايشية، لأنها لا تكلفهم فلساً واحداً يزهق في عمليات الإعداد والتدريب، على أنها كوادر جاهزة يمكن أن تعطي مباشرة، فلا يقذف بهم في قارعة الطريق.
*وربما تلاحظون أن خبراء وكوادر الجمهورية العربية المصرية هم أكبر ممول للفضائيات العلامية ومراكز الأبحاث والورش المتخصصة التي تعقد في كل أركان الدنيا، وذا مصدر دخل كبير، ليس للكوادر والمعاهد الإستراتيجية فحسب، بل للناتج القومي للجمهورية من الموارد المادية والأدبية.
*أحد الكوادر التي أجلس إليها على سبيل المقال يمتلك تجربة تراكمية هائلة في التعاطي مع أزمة وتعقيدات دارفور، فلقد عمل الرجل الذي ينحدر من بحر ابيض لمدة عشرة أعوام محافظاً ومرات وزيراً في كل محليات دارفور الكبرى على أيام اللواء الطيب إبراهيم، وكانت لهم تجربة ناجحة في جمع السلاح وتجفيف الأزمات قبل ان تتفجر من جديد، ولو أن هناك معهداً استراتيجياً واحداً، حكومياً كان أم أهلياً، يقدم دراسات وبحوث وقرارات ومخارج لأزمة الإقليم، لأمكن الاستفادة من هذا الكادر المصقول وبقية الكوادر، على أن تأتي معالجاتنا في نهاية الأمر (معالجات دولة ناضجة) وليست معالجات حكومة أو (مجلس قيادي) أو مجموعة ترى أن الخطل والباطل لا يأتيها من خلقها ولا من قبلها هي الفيصل وليس الهزل!
*وعلى ذلك قس، مجالس إستراتيجية في مجال الاقتصاد والإنتاج والحرب والسلام والعلاقات الدولية والاجتماع، معاهد إستراتيجية ذات تخطيط ونفس طويل ليست كتلك التي نستدعيها عند الأزمات والملمات لنعبر بها جسر الأزمة، ثم لا نملك أن نركلها!
*ويفترض أن هذا الأدب العلمي الإستراتيجي يذهب إلى أبعد من ذلك، على أن تكون للدولة السودانية رؤية إستراتيجية ثابتة في كل الأصعدة والمجالات، علماً بأن رؤية الدولة تنتجها الحكومة والأنظمة والمعارضة كما في الدول التي يقال عليها متقدمة وهذا سر تقدمها!
*هل تعلموا أن في ظل النظام الواحد، أن أي وزير لا يبقى على برنامج وخطة سلفه، بل يأتي حتى بسكرتاريته ومدير مكتبه في معظم الأحيان، أما عن البرنامج والخطط، فحدث ولا حرج.
*نحن لم نتواضع بعد على أسماء الحقائب الوزارية فضلاً عن ما دونها من أشياء، وزارة واحدة مثل وزارة الرعاية الاجتماعية تجدها قد أخذت مجموعة من الأسماء واتخذت مجموعة من التوجهات المتباينة في ظل نظام الحزب الواحد، والقصة تبدأ بالتخطيط الاجتماعي ولا تنتهي بالشؤون الاجتماعية.
*إن الذي أغلى من الموارد المادية هو (الموارد البشرية)، وهي التي تصنع دولة العلم والقانون..
*مخرج.. لما ذهب الوزير سبدرات إلى المعاش ذهبت إليه في مكتبه بامتداد حي العمارات بالخرطوم، فوجدت أن إرادته ومكتبه وأشعاره وأشواقه أعظم ألف مرة تلك التي كانت على عهد الاستوزار، فذهبت لأكتب، أن تاريخ سبدرات الحقيقي قد بدأ يوم أن فارق الوزارة، وفي المقابل كثيرون يرون أن ذهابهم إلى المعاش هو نهاية التاريخ!
ملاذات آمنه – صحيفة اليوم التالي