“الصيحة” تبحث الفروق بين “واشنطون” و”الخرطوم” في مساعيهما لتطبيع علاقاتهما المأزومة منذ العام 1993م، وذلك بناء على انخراط مساعد رئيس الجمهورية نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني لشؤون الحزب البروفسور إبراهيم غندور في مباحثات رسمية مع المسؤولين الأمريكيين في واشنطون، التي يزورها غندور حالياً. فهل يا ترى يحدث الاختراق أم تبقى الأوضاع عالقة بين البلدين على الأقل لحين انتهاء مارثون الانتخابات الأمريكية بعد عام ونصف؟.
تساؤلات عديدة سبقت زيارة مساعد رئيس الجمهورية نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني لشؤون الحزب البروفسور إبراهيم غندور للولايات المتحدة الأميركية هذه الأيام حول مقدرتها في إحداث اختراق حقيقي بمسار العلاقات الثنائية بين البلدين التي ظلت تتأرجح ما بين خانة العداء الكامل والاحتقان الصامت وما بينهما من حقب تتطورت فيها الأوضاع بين البلدين لمرحلة التلويح بالحرب في مواجهة الطرف الآخر بلغت ذروتها بقصف واشنطون لمصنع الشفاء في أغسطس 1998م.
لاءات وأجندة
خلال المؤتمر الصحفي لرئيس القطاع السياسي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم د. مصطفي عثمان إسماعيل – وزير الخارجية السابق خلال الفترة من 1998-2005م- قدم لاءات اثنين في ما يتصل بالعلاقة مع واشنطون أولها (لا) تنازلات للولايات المتحدة في ما يتصل بالثوابت الوطنية أما (لا) الثانية ليس لدينا مشكلة في وجود مصالح لواشنطون بالمنطقة ولسنا في حالة حرب معها.
وطبقاً لاسماعيل فإن أجندة الحوار السودانية- الأمريكية تشمل عدداً من الأجندة تتمثل في (إلغاء العقوبات الأمريكية على السودان، ورفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب والدور الذي يمكن أن يؤديه السودان في ما يتصل بالقضايا الإقليمية).
استصحاب التجارب
يبدو أن إسماعيل لم يغفل سجلاً حافلاً من المباحثات والجولات الماراثونية جمعت بين الخرطوم وواشنطون بعضها جرى تحت الأضواء وأخرى منها بعيدة عن الأعين لم يترتب عليها تجول جذري في الموقف الأمريكي ولعل ذلك ما دفعه للقول خلال حديثه بذلك المؤتمر الصحفي: “سنمضي بعقل وقلب مفتوحين وسنطرح رؤيتنا للإدارة الأمريكية ولا نتوقع نتائج بين ليلة وضحاها”.
فالتوتر في العلاقات ما بين الإنقاذ عموماً والإسلاميين الواقفين خلفها والمساندين لها تحديداً والإدارة الأمريكية بدأ يتبلور بشكل علني، منذ الوصول للسلطة في يونيو 1989م والتي تلت فترة غير علنية من التوتر واتهامات الأمريكان باستهداف الإسلاميين منذ زيارة جورج بوش الأب –حينما كان نائباً للرئيس الأمريكي – للبلاد قبل أشهر من إسقاط الرئيس السابق جعفر نميري واتهامه بالوقوف وراء فض تحالف الإسلاميين مع السلطة، وأفضى للزج بقادتهم في السجون، أما في آخر أيام الديمقراطية الثالثة فإن الجبهة الإسلامية القومية أشارت إلى تدخل السفير الأمريكي بالخرطوم واتصالاته بالقوى السياسية بغية إبعاد الجبهة الإسلامية من الحكم والحليولة دون وصولهم للحكم.
مثلت حرب الخليج الثانية في أعقاب احتلال العراق للكويت في أغسطس 1990م النقطة المفصلية في مسار العلاقات نتيجة، لما اعتبر مساندة سودانية للعراق ومناهضته للاستعانة بقوات التحالف الدولي التي قادتها واشنطون لقيادة عملية عاصفة الصحراء لإخراج القوات العراقية من الكويت وتحريرها، إلا أن وصول الديمقراطيين للبيت الأبيض بقيادة بيل كلينتون شهدت أسوأ فترة للعلاقات بين البلدين، والتي بدأت بوضع السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب ثم فرض العقوبات والمقاطعة الاقتصادية الأمريكية في العام 1997م، وبلغت ذروتها في أغسطس 1998م بقصف الصواريخ الأمريكية ودكها لمصنع الشفاء لصناعة الأدوية بالمنطقة الصناعية بالخرطوم بحري، حيث ظلت واشنطون تتهم الخرطوم باحتضان ورعاية الجماعات الإرهابية ومساندتها وتوفير المأوى لها.
رغم حالة الاحتقانات تلك، فإن الكواليس شهدت العديد من المساعي بين البلدين للتوصل لتفاهمات غلب عليها الطابع الأمني أكثر من السياسي، نظراً لارتباط الخلاف بشكل أساسي بالقضايا ذات الطابع الأمني من خلال اتصالات ذات طابع أمني قادها كل من مدير المخابرات الدكتور قطبي المهدي مع إدارة التحقيقات الفيدرالية (إف. بي. آي)، ووزير الدولة بوزارة الدفاع اللواء – وقتها الفريق طيار لاحقاً – الفاتح عروة الذي قدم عرضاً رفضه الأمريكيون بتسليم زعيم تنظيم القاعدة للسعودية أسامة بن لادن، ولكن واشنطون رفضت هذا العرض ووافقت على إبعاده من البلاد لأفغانستان.
حوافز بلا عوائد
توقعت الخرطوم أن يفضي دوره في العديد من التحولات الإقليمية في تحسين صورتها أمام واشنطون بما ينعكس إيجاباً على علاقات البلدين، سيما دورها في الحرب على الإرهاب، ثم التوقيع على اتفاق السلام الشامل في يناير 2005م التي أنهت الحرب مع الجنوب، ولكنها عوضاً عن ذلك لم يحدث أي تطور أو تحول إيجابي في الموقف الأمريكي الرسمي، بل أن الرئيس السابق جورج بوش رد تلك التحايا بفرض عقوبات إضافية بإضافة شركات سودانية تحت قائمة الحظر الاقتصادي.
رغم أن الإدارة الديمقراطية خلال عهد الرئيس بارك أوباما بدت أكثر مرونةً من سابقتها الجمهوريين بلجوئه لتقليل القيود والعقوبات الاقتصادية بزيادة الاستثناءات في العقوبات التي كانت مقتصرة فقط على الصمغ العربي فباتت تشمل مدخلات زراعية ومعدات طبية، ولكنه ظل عاجزاً لعوامل مرتبطة بالمؤثرات المكونة للسياسة الأمريكية خاصة مجموعات الضغط الداخلي صاحبة التأثير الكبير التي تتبنى معظمها مواقف مناهضة تجاه الخرطوم ولعل ما يؤكد حجم وتأثير تلك المجموعات هو إجبارها للإدارة الأمريكية على إصدار بيان في ما يتصل بدعوة وزير الخارجية علي كرتي لزيارة واشنطون خلال الأيام الماضية، وتأكيدها أن دعوته ليست رسمية وتمت من قبل منظمات مدنية وكنسية لتقدير دوره في ما يتصل بإنهاء أزمة الطبيبة مريم يحيى التي حكم عليها بالإعدام وإطلاق سراحها.
النقطة الوسط
قد يبدو السؤال المطروح في خضم مباحثات غندور الراهنة بالولايات المتحدة الأمريكية: “هل تغيرت الخرطوم أم تبدلت واشنطون؟”، ولعل الإجابة تقودنا مباشرة لتوصل الطرفين لنقطة وسطي بينهما فما عادت الخرطوم راغبة في نشر مشروعها الأممي الذي كانت تروج له في تسعينيات القرن الماضي (من طنجة لجاكرتا) والعمل على تغيير الأنظمة الموجودة بكل تلك الدول وفي ذات الوقت فإن واشنطون نفسها عدلت فكرتها السابقة الداعية لاسقاط النظام واحلاله بآخر وتبنيها لموقف جديد يدعو لاستيعابه ضمن تسوية سياسية بوصفها الطريقة الأمثل لحماية البلاد من الانزلاق في أتون فوضى ليبيا أو اليمن مع ضرورة الإشارة لنقطة أساسية ولذلك فإن الخلاف الحالي بين الطرفين ينحصر في كيفية تحقيق تلك التسوية السياسية، أما التحدي الأكبر الذي سيجابه علاقات البلدين خلال الفترة القادمة فهو دخولها ضمن مزاد الانتخابات الأمريكية المقرر إجراؤها في العام 2016م وإمكانية جعلها وسيلة لمخاطبة ود اللوبيات والمجموعات المؤثرة التي يغلب عليها مناهضة السودان، وربما يترتب عليها تجميد أي تحركات إيجابية في مسار العلاقات الرسمية بين البلدين والتي ستكون وقتها رهينة بالقادم الجديد للبيت الأبيض ومن يدري قد يكون أفضل من سلفه أوباما في ما لا تخفي الخرطوم قلقها من أن تحتاج لتردد ندماً على أيام أوباما قائلة: “ضيعناك وضعنا وراك”.
الخرطوم: ماهر أبوجوخ
صحيفة الصيحة[/JUSTIFY]