لم تصدر الخارجية السودانية لا قبل ولا بعد بيانا يكشف ولو اليسير من زيارة مسؤولها الأول علي كرتي إلى الولايات المتحدة للمشاركة في (صلاة الإفطار الوطني) الذي يعتبر أكبر فعالية لواحدة من أكبر الكيانات الدينية السياسية نفوذا في الأرض الجديدة. ومشاركة الرجل كانت لافتة في ظل القطيعة المعلنة بين البلدين ومحل انتقاد من مجموعات الضغط الأمريكية المناوئة للخرطوم التي تصدرت تظاهراتها المنددة بمشاركته كبريات وسائل الإعلام الأمريكية ما اضطر الخارجية الأمريكية إلى إصدار بيان تنبه فيه إلى أن الدعوة التي لباها كرتي لم تكن من جهة حكومية وأن سياستها تجاه بلاده “لم تتغير”.
فالصحيح أن مجموعة (الأسرة) المسيحية التي تنظم الفعالية السنوية ليست جهة حكومية، لكن الصحيح أيضا أنها تضم نخبة المجتمع الأمريكي وينظر إليها بوصفها المحرك الفعلي لسياسات البلاد الداخلية منها والخارجية، وهو ما يمكن تبينه بنظرة خاطفة إلى مجموع الشخصيات المشاركة في الاجتماع من داخل الولايات المتحدة وخارجها وعلى رأسهم الرئيس باراك أوباما، إذ جرت العادة أن يخاطب رئيس أمريكي (صلاة الإفطار الوطني)، ولو لمرة واحدة خلال سنوات رئاسته.
ولطبيعة المجموعة كان مفهوما لماذا غضبت اللوبيات والجمعيات الحقوقية من مشاركة مسؤول سوداني رفيع في مناسبتها للدرجة التي جعلت الخارجية الأمريكية تسترضيها بالتبرؤ من الدعوة، بل ويصرح دبلوماسي أمريكي آخر لوسائل الإعلام أن الدعوة (مكأفاة) من الجمعية المسيحية لكرتي نظير جهوده في قضية مريم يحيى التي حكم عليها العام الماضي بالإعدام بعد إدانتها بالردة قبل أن يفرج عنها لاحقا بعد تبرئة محكمة الاستئناف لها، حيث غادرت لتستقر في الولايات المتحدة برفقة طفليها وزوجها المسيحي الأمريكي الذي تعود أصوله لجنوب السودان.
* صمت رسمي
وبالمقابل، فإن غير المفهوم هو صمت الخارجية السودانية تجاه الزيارة التي ستعطف بزيارة أخرى لمساعد الرئيس إبراهيم غندور خلال أيام لكنها تختلف عن زيارة كرتي لكونها تأتي بدعوة رسمية من الكونغرس وحظيت هي الأخرى بانتقادات من دوائر أمريكية نافذة، أبرزها البيان الذي أصدره رئيس لجنة حقوق الإنسان بالكونغرس جيم مايكوفرن بالاشتراك مع السيناتور جوزيف بيتس حيث قالا فيه إنه “لا ينبغي دعوة مسؤولين سودانيين لحضور مناسبة تنظم باسم الكونغرس”.
* زيارتان ومكالمة نادرة
كلا الزيارتين يمكن النظر إليهما كامتداد للمكالمة الهاتفية النادرة التي تلقاها كرتي في أكتوبر الماضي من نظيره الأمريكي جون كيري وبعد أيام قلائل من تجديد الرئيس أوباما للعقوبات المفروضة على السودان بذات الحجة وهي “استمرار الارتباط بشبكات الإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان”. فكيري طبقا لبيان صدر من الخارجية السودانية وقتها أعرب عن رغبة بلاده في “التفاوض الثنائي المباشر مع السودان حول القضايا العالقة بين البلدين” بينما أبلغه نظيره السوداني “بالوعود الأمريكية تجاه السودان والتي ظلت الإدارة الأمريكية تتنصل من الوفاء بها”، قبل أن يتفق الوزيران على أن “بحث العلاقات الثنائية قد تأخر كثيرا وأبديا استعدادهما لمواصلة الحوار”.
* هافانا والخرطوم
حسناً، زيارتان إلى واشنطون يثيران اللغط هناك والصمت هنا، علماً بأن الخطوة تتزامن وخطوات أمريكية رامية إلى التطبيع مع دولة أخرى تقبع مع السودان في نفس لائحة الإرهاب، حيث أن اتفاقا تاريخيا تم توقيعه في 17 ديسمبر الماضي لاستعادة العلاقات بين واشنطون وهافانا، وسيجتمع دبلوماسيون امريكيون وكوبيون هذا الشهر أو اوائل مارس في العاصمة الأمريكية لجولة ثانية من المحادثات يتوقع لها أن تحدث المزيد من الانفراج في علاقة البلدين. والحال كذلك يمكن التساؤل: هل الزيارتان اللتان لا تفصلهما سوى أيام بداية عملية للحوار أم أن مكالمة كيري لم تكن سوى “خطوة تكتيكية وليست استراتيجية”؟ كما علق عليها وقتها أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم محمد الأمين نوري الذي يرى أن “واشنطن لا تزال تنظر للحكومة بأنها واجهة للإرهاب ولن تتخلى عن شروطها والحكومة ليس بمقدورها تنفيذ هذه الشروط”.
* الأهداف المتحركة
الواقع أن الشروط الأمريكية متجددة ولا تزال حبيسة لسيرة الإنقاذ القديمة حيث تبنت فور وصولها للسطة شعارات مناوئة للغرب ترتبت عليها قيادة واشنطن لحملة غربية مناهضة لها كانت أولى بوادرها إدراج السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب في 1993 بالتزامن مع تقديم دعم سخي للحركة الشعبية في حربها بجنوب البلاد لاستنزاف الحكومة الجديدة.
ورغم أن الحكومة سعت مبكرا لتدارك الحملة الغربية عبر عدة خطوات بدأتها بطرد أسامة بن لادن من أراضيها في 1996 إلا أن الولايات المتحدة لم تلتفت لها وهي تفرض عقوبات اقتصادية قاسية على السودان في العام 1997 وزادت عليها بأن قصفت مصنع الشفاء للأدوية في العام التالي بذريعة تصنيعه أسلحة كيمائية تأكد لاحقا عدم صدقيتها، ومع ذلك لم تكلف واشنطن نفسها عناء الاعتذار.
* مضمار التطبيع
ومع ذلك واصلت الخرطوم جهودها الرامية للتطبيع مع الولايات المتحدة وخففت من خطابها المعادي لها خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر بل وتعاونت معها في مكافحة الإرهاب رغم كونها مدرجة في ذات القائمة الإرهابية، وكان مبررها لذلك طبقا لما قاله مدير جهاز الأمن والمخابرات السابق صلاح قوش في وقت لاحق هو تفادي ضربة أمريكية على غرار الضربة التي منيت بها أفغانستان.
وزادت الحكومة بتعاونها مع واشنطن أن سمحت لها بلعب دور محوري في التوسط بينها والحركة الشعبية، وكان دافعها إلى ذلك التطبيع الذي كانت تأمل فيه وهي توقع على اتفاقية نيفاشا لكنها وجدت نفسها في مواجهة شرط أمريكي جديد وهو تنفيذ الاتفاقية وصولا لفصلها الأخير المتمثل في الاستفتاء لأهل الجنوب، فتعاطت مع ذلك بمرونة، وبدلا من أن تعرقل الاستفتاء كما كانت تتخوف واشنطن كانت أول حكومة تعترف بالدولة الوليدة وشارك الرئيس البشير في حفل إعلانها في يوليو 2011.
* مواقف تصعيدية
لكن واشنطن لم تعدم شروطا جديدة تقيد بها جهود الخرطوم لتطبيع علاقتها معها وفي صدارتها وقف الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وحل أزمة الحكم وتحسين سجل حقوق الإنسان وهو ما رفضته الخرطوم ورأته “تدخلا في الشؤون الداخلية”.
وللمرة الأولى منذ بدء مساعيها لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة عمدت الخرطوم إلى تبني مواقف تصعيدية وهي ترفض منح مبعوث الرئيس الأمريكي الجديد دونالد بوث تأشيرة دخول في نوفمبر 2013 حيث سمحت له قبلها بزيارة البلاد لكن رفض غالبية المسؤولين الكبار الاجتماع به وكان أرفع مسؤول يلتقيه هو وكيل وزارة الخارجية وقتها رحمة الله عثمان. وقبلها رهن وزير الخارجية علي كرتي أي تعاون مع بوث بأن تقتصر مهمته على “تطبيع العلاقات بين البلدين دون أي تدخل في الشؤون الداخلية”.
* آخر مساومة.. بآخر كرت
وبعدها بأشهر وعندما لم تصدر واشنطن أي خطط عملية لتطبيع العلاقات أعلنت الخرطوم وتحديدا في يوليو الماضي أنها بصدد مراجعة اتفاقها معها والخاص بمكافحة الإرهاب، حيث نقلت وكالة الأنباء الرسمية وقتها عن مصدر لم تسمه أن القرار اتخذ فعليا لكن لم يتم تبليغ واشنطن به رسميا.
وإلى حد ما يمكن القول إن القرار في خلاصته آخر مساومة للخرطوم بآخر كرت ضغط، لكن لا يمكن القول بأن واشنطن أذعنت لهذه المساومة رغم مهاتفة كيري لكرتي ورغم زيارتي الثاني وغندور لأراضيها طالما أن الخارجية الأمريكية لا تزال تسترضي مجموعات الضغط وتؤكد صراحة أن سياساتها تجاه السودان “لم تتغير”.
اليوم التال