ما من مهنة إلا وفي طيها مِحنة، أو تسبب المحن لمن يمتهنها أو من يتعاملون معه/ معها، وتوقفنا في المقال السابق عند فئة الموظفين العموميين/ الحكوميين، ولم آت بجديد عندما قلت إن كثيرين منهم يتفننون في بهدلة خلق الله، إما بتعقيد الأمور لكل من يلجأ إليهم طلبا لخدمة عامة، أو بعدم التواجد في مواقع أعمالهم خلال ما يعرف بساعات الدوام الرسمية، وهم يفترضون أنه لا يوجد من يسألهم «تلت التلاتة كم؟»، وشخصيا لا أفهم وجه الصعوبة في توجيه ذلك السؤال إلى أي شخص وزيرا كان أم خفيرا، بل لا أعتقد أنه لو قام أحدكم بإيقاف كل من يلتقي به في الشارع أو مكان عام وسأله: لو سمحت تلت التلاتة كم؟ لن يغضب متلقي السؤال، بل سيقدم الإجابة الصحيحة: أظن تلت التلاتة واحد، وربما يتلقى من شخص أو اثنين إجابة من نوع: والله مو متأكد لأني «أدبي»، بس لو وقتك يسمح ممكن اتصل بصديق من القسم العلمي والحين يدرس الهندسة ويعطيك الإجابة! وبما أن الشيء بالشيء يُذْكر فإنني لا أفهم وجه الصعوبة في أن تقول إن «البغلة في الإبريق»، فرغم ان العبارة سيريالية، ولن تكون أنت أو غيرك صادقا إذا قلت إن البغلة في الإبريق، إلا أنه ليس من العسير أن تردد تلك العبارة في كل مكان أو زمان، وسيكون رد الفعل الوحيد هو أن الناس سيعتبرونك مجنونا، ولكن الشاهد هو أنه ليس هناك صعوبة في أن تقول لشخص ما إن البغلة في الإبريق، دون أن تتوقع أن قولا كهذا قد يجر عليك المتاعب.
ولكن معظم الموظفين الحكوميين يعلمون أن قلة من المواطنين الذين يغشون مكاتبهم لإنجاز أمر ما يتطلب مستندات وتصديقات رسمية، تجرؤوا على طرح السؤال المتعلق بـ«تلت التلاتة»، فموظف الحكومة مسنود بالحكومة، والحكومة منظمة خيرية تعطي مئات الآلاف بل الملايين رواتب، بغرض خفض معدلات البطالة، دون أن يكونوا مطالبين بأداء عمل يستحقون عليه واحدا على عشرة من تلك الرواتب، وفي بلاد العربان تجد عشرة أشخاص مكلفين بالمهمة نفسها في المكتب الحكومي الواحد، ولهذا هناك نظام ورديات/ شفتات/ مناوبات غير معلن في أجهزة الدولة، وبالتالي من بين أولئك العشرة يداوم اثنان فقط لأسبوع كامل، ثم يتغيبان ليحل محلهما اثنان آخران، وهكذا ينعم الموظفون بإجازات مدفوعة الأجر كل شهر، لأن تسيير العمل يكون بحكم صلاة الجنازة «إذا قام به البعض سقط عن الباقين»، وبسبب التسيب المقنن هذا يتعرض المواطنون للشرشحة والبهدلة في الدواوين الحكومية، فالمستند الذي يمكن الحصول عليه في خمس دقائق قد يستغرق منك 35 يوما، لأن «فلتكان» الذي جاء دوره في الغياب أخذ معه «الختم»، أو لأن المستند لن يكون صحيحا ما لم يكن «مبدئيا» يحمل توقيعات الموظفين العشرة، وبعدها تمر على رئيس القسم/ المدير الذي هو من فصيلة هلال رمضان، ولا يُرى إلا مرة في السنة، وقد تتعذر رؤيته بالعين المجردة لأنه كائن فيروسي مايكرسكوبي، ويا ويلك وظلام ليلك لو طلبت أمرا ما في مكتب حكومي خلال موسم العطلات في الصيف، لأنه حتما سيكون هناك العديد من أصحاب القرار في إجازات، وحتى لو كان المتغيب في إجازة مسؤولا واحدا، فليس من حقك أن تسأل لماذا لم يقم بتفويض صلاحياته لغيره خلال غيابه.. يا عبيط: لنفترض أنه فوّض صلاحياته لغيره واتضح أن هذا الـ «غيره» كفء ويؤدي العمل في سرعة وإتقان!! ألن يؤدي ذلك إلى إشانة سمعة المسؤول المسافر؟
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]