قبل عدت سنوات كشفت دراسة سودانية أن نسبة الشباب المهاجرين سنويا بلغت 95%، 38% منهم قرروا عدم العوده نهائيا حسب العينة المستطلعة، ولا يزال الشباب يحزمون حقائبهم ويهمون بالرحيل إلى يومنا هذا، فما إن يغضب أحدهم لأتفه الأسباب في البلاد كـ تأخر المواصلات مثلاً، حتى يسخط قائلاً “الله يمرقنا من البلد دي”.
جرب أن تسأل أحدهم عن سبب تعلقه بحلم الهجرة، سـيصفعك في التو واللحظة بالإجابة التقليدية التي نحفظها عن ظهر قلب (البلد بقت طاردة)، وإن رُمت استخراج إجابة أكثر تفصيلاً، فإنه يبدأ بتعداد دوافع رحيله الشخصية التي تختلف من شخصٍ لآخر، فـالبعض قال إنها لدواعٍ اقتصادية وأخرى تعليمية وسياسية وأحيانا اجتماعية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا أين يكمن جانب الحنين وحب الأهل والديار، وإلى متى سيواصل السودانيون الزرع في غير أراضيهم، وإن لم يعودوا من أجل فكرة الوطن، ألن يُعيدهم الحنين للأهل والذكريات؟!
موانع مختلفة
فى ظل وجود نظام يُقر مبداء العنف ولا يؤمن بلغة الحوار والمناقشة (أعمل شنو)؟ هكذا ابتدر محمد الطاهر – خريج – حديثه، واسترسل قائلاً: أنا شخصيا ضمن الـ 38% الذين يرغبون في الخروج بلا رجعة، وهنالك كثير من الموانع التي تدفع الفرد للبحث عن بيئة أخرى غير التي نشأ فيها، وعموماً فالأرض كلها لله ونحن مستخلفون فيها، والحدود التي تفصل بين الدول وضعها المستعمر. ويستطرد محمد: عن نفسي حددت أهدافي وطموحاتي ووجهتي التي أنشدها، ولا أملك أدنى رغبة في العودة مرة أخرى، عدا في حالة تغير النظام، أما عن الأشواق والحنين للأهل فـ (البركة) في التكنولوجيا من اسكايبي وما شابه ذلك، ويمكنهم زيارتي من وقت لآخر.
شخص أناني ولا مبالٍ
ومن جانبه صنف شمس الدين كنان المهاجر بلا رجعة بأنه شخص أناني ولا مبالي تجاه أهله، وغالباً ما يكون (بايع القضية) ولا تعني له الأشواق والذكريات كثيراً، وأحياناً تكون هجرته ردة فعل لموقف ما، كأن يختلف مع أسرته أو من يُحب، وهنالك أمثلة كثيرة على قولي هذا، برنامج (ألو مرحبا) الذي يناشدهم مراراً وتكراراً أبلغ دليل على ذلك. وأضاف كنان إذا كان الغرض منها تحسين الدخل، فهذا في رأيي غير مبرر إطلاقاً، وذلك لأن حاجة الأهل لرؤية ابنهم أقيم من كل العوائد المادية، لكن للأسف، الكثير من الشباب يلهثون خلف طموحاتهم الخاصة دون مراعاة لآبائهم، وأنا شخصيا أضم صوتي لـ 5% الذين يرومون بناء البلاد، فـالوطن ليس تراباً وسماءً، إنه أهل وأصدقاء وذكريات، كيان يجسده البشر، نحن الوطن، فإن ذهبنا فلن يكون له وجود.
ووافقته رحمة محمد خالد، قائلة: شخصياً لا أعرف كيف يمكن لأحدهم هجر منزله، أهله، جيرانه بلا رجعة، في رأيي هذا قرار في منتهى القسوة، ولو كنت في محل أسرهم لن أسألهم أو أشحذ منهم العودة عبر البرامج التلفزيونية أو الهواتف، سأهجرهم (ولا أسف عليهم)، فهم أشخاص ناضجون اختاروا أن ينفصلوا عن محيطهم طوعاً، لذلك ينبغي لهم تحمل تبعات خياراتهم، وتُضيف محدثتي: شبح الهجرة سيطر على أذهان الشباب بصورة رهيبة، حتى باتوا يرونه خلاصهم من الفقر والجهل والكبت الاجتماعي المحفوف بالعيب والحرام، لكنهم سيصعقون بأشياء أُخر، فـفرنسا التي تُسمى بلد الحُريات هنالك تصنيفات للمواطنين بحسب درجاتهم، ففيهم مواطن من الدرجة الأُولى وآخر ينتمي للدرجة الخامسة.
العودة إلى الجذور
مدت لسانها باستهتار ثم قالت: “السودانيين كضابين ساي”، يدعون أنهم قادرون على الاغتراب ولو مؤقتاً، لكنهم ما إن يخرجوا حتى يبدأوا في البحث عن مطاعم للوجبات السودانية وتجمعات أبناء جاليتهم ما جعلني أتأكد من أنهم شعب عاطفي جداً لا يستطيع هجر وطنه إلا للشديد القوي، هكذا ابتدرت سهام الفاتح – موظفة – حديثها، وواصلت قائلة: عدم العودة غالبا ما تكون فكرة مبدئية.. وضحكت ثم أردفت: لكنهم عندما يصطدمون بالواقع سيُدركون أن (الكسرة ما بتتفات)، وأكثر ما يدفع الشباب للخروج عدم النظام و(السبهللة) في كل شيء، ابتداءً من المواصلات وأزمتها التي لا تنتهي مروراً بالسلم التعليمي المُنهار والفساد، الرشاوى والمحسوبيات.
قراءة واقعية
وفي السياق، قالت الباحثة الاجتماعية الأستاذة ثريا إبراهيم: تتعدد مسببات الهجرة وأنواعها، فهنالك هجرة سياسية، وأخرى اقتصادية، أو تعليمية، وأحياناً اجتماعية، لكن أغلب الشباب ومنذ زمن بعيد هربوا من واقعهم لدول المهجر لأسباب اقتصادية، بغية تحسين أوضاع أسرهم حالمين بغدٍ مريح مادياً، غافلين العوائق التي قد تواجههم فيها، وإذا أخذنا على سبيل المثال الدول الأوروبية فإنه من الصعب بناء مستقبل مادي على المدى القصير، ويستغرق الأمر وقتا طويلا قد يمتد لـ 10 أعوام ريثما يوفِق الشاب وضعه الحياتي، وبالكاد يوفون بالتزاماتهم الشخصية، لذلك من الصعب جداً بعث نقود لذويهم، ما قد يجعلهم يُخطرون ذويهم بعدم العودة نهائيا، وذلك لأنهم لم يُنجزوا ما خرجوا من أجله، فلم يتمكنوا من شراء منزل أو توفير حساب بنكي يضمن لهم حياة كريمة بعد أن يعودوا، خصوصاً وأنهم مُحاطون علما بمُجريات الأمور في البلاد من مشاكل اقتصادية وعطالة بسبب عدم توفر وظائف للخريجين وغيرها من المشكلات
اليوم التالي