المتناقضات تبدو واضحة ما بين مسؤولين يتحدثون عن دخول الاقتصاد السوداني إلى مرحلة الاستقرار والتعافي.. وخبراء اقتصاديين يؤكدون أن الاقتصاد لايزال يرزح تحت وطأة الأزمات المتعاقبة.. وعلى الضفة الأخرى يقف المواطن يراقب الموقف عن كثب، فهو الوحيد المكتوي باقتصاد (قفة الملاح) عندما يتحسس جيبه كل صباح ويجد أن كيلو اللحم قفز إلى ما فوق الستين جنيها وأن السوق أصابه غول الغلاء فالتهم الزيوت والفواكه وغيرها من السلع المستوردة التي تعاني هي الأخرى من فرض رسوم وضرائب وزيادة في الدولار الجمركي.. كل ذلك والمواطن في حيرة من أمره لا يدري من يصدق المسؤولين أم الخبراء؟ المؤكد وبلا جدال أن الاقتصاد السوداني يعاني من مشاكل واضحة للعيان تحتاج إلى حلول عاجلة.
صبيحة أمس توافد على المركز العالمي للدراسات الأفريقية عدد من المهتمين بالشأن الاقتصادي بعد أن تلقوا دعوة لحضور محاضرة بعنوان: (أقرب الطرق لتعافي الاقتصاد السوداني).. العنوان بدا جاذبا لعدد من الإعلاميين فحجزوا مقاعدهم منذ وقت مبكر لمعرفة الطريق المفضي لاستقرار الاقتصاد، ورغم الغياب الذي سجله المعقب الثاني والذي سمي بالدعوة على أنه حسن أحمد طه وزير الدولة الأسبق بوزارة المالية فإن المحاضرة بدأت مثيرة للجدل في ظل ما أعلنه عبدالله زكريا المدير العام للمركز من رؤية عن الاقتصاد السوداني.
* السقوط الحر
زكريا رسم صورة شديدة القتامة عن الوضع الاقتصادي الحالي واصفا الاقتصاد القومي بأنه يمر بمرحلة السقوط الحر بسبب ما أقدمت عليه الحكومة في بداية توليها وانتهاجها الاقتصاد الحر الذي أفضى إلى أن ترفع الدولة يدها من الاقتصاد وتركه للرأسمالية بعد أن باعت له أصول القطاع العام بـ(تراب القروش) على حد قوله، فأصبحت لا تمتلك أصولا أو نقودا.. المسألة لا تقف عند هذا الحد، بل تطورت بعد أن لجأت الدولة في سنوات ماضية وخاصة في عهد مايو إلى الاستدانة من صندوق النقد الدولي والتي بلغت حينها (9) مليارات دولار غير أن قوانين الصندوق تفرض على الدول المستدينة عند السداد 25% فائدة و20% خدمة للدين الأمر الذي اعتبره زكريا سرقة، علاوة على ذلك صندوق النقد الدولي يطالب الدول بتحرير الاقتصاد والتخلي عن نزعة الصناعات المحلية، بالإضافة إلى إلغاء الدعم على الأسعار وتخفيض الميزانية والتخلص من القطاع العام عبر الخصخصة الرأسمالية مع العمل على تقليص دور الدولة في إدارة الاقتصاد واعتبار الرأسمالية المحلية ركيزة العمل الاقتصادي التنموي، ونبه زكريا إلى أن هذه الوصفة هي التي جعلت الدول تنتهج الاقتصاد الحر، وقال إن أغلب الدول الأفريقية وقعت في شرك الديون من الصندوق، الأمر الذي أدى بالدول الأفريقية الفقيرة أن تمول أمريكا الغنية، بيد أن زكريا لفت الانتباه إلى مسألة مهمة وهي التي جعلت الاقتصاد يتدهور بصورة أكثر مما هو عليه، والمتمثلة في تهريب صادرات السودان غير البترولية الأمر الذي يعزز بأن الحصار الذي تفرضه أمريكا على السودان هو حصار مالي أكثر من أنه اقتصادي.. الشاهد في ذلك أن أمريكا التي استثنت سلعة الصمغ العربي من الحصار تستورده بطريقة غير مباشرة من إثيوبيا، بجانب أن أريتريا تعتبر ثاني دولة أفريقية من حيث الذرة.. وفي نفس الوقت فإن أريتريا لا تزرع الذرة ما يعني أنه يهرب إليها من جهة ما، وأشار زكريا إلى أن الكارثة الحديثة تتمثل في تصدير إناث الإبل إلى المملكة العربية السعودية، ما يعني أنه بعد عشر سنوات لا تحتاج السعودية إلى استيراد الإبل.. ومن خلال كل تلك العوامل فإن نظرية السقوط الحر للاقتصاد تأتي من خلال تهريب الصادرات السودانية للخارج عبر منظمات سودانية وغير سودانية، ولا يستبعد زكريا أن يكون هنالك نافذين يقفون خلف هذه المنظمات.
* “الديمقراطية العسكرية”
بيد أن الحل في تعافي الاقتصاد يكمن في رؤية زكريا بأن يمارس السودان الاتجار بالمستقبل مع عدد من الدول التي تربطها علاقة وطيدة مع السودان مثل الصين والهند وروسيا وجنوب أفريقيا، بجانب أهمية إعادة نظام الإدارة الأهلية وطالب بتبني مقترح نظام سياسي جديد تحت مسمى (الديمقراطية العسكرية).
* ليست أزمة.. وليست أزمتان
وفي الوقت الذي يقر فيه الخبير الاقتصادي د. عادل عبدالعزيز بوجود مشكلة اقتصادية تلتزم المعالجات نتجت من تعرض الاقتصاد لثلاث أزمات تتمثل في اتفاقية نيفاشا التي ذهبت بـ50% من النفط للجنوب، ثم جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية وانفصال الجنوب.. كل ذلك شكل صدمة للاقتصاد القومي وجعله يواجه مشكلة في مجال الإيرادات خاصة بعد عدم التزام جنوب السودان بدفع ما عليه من تعويضات نفطية، إلا أن عبدالعزيز في ذات الوقت يختلف مع زكريا فيما يخص صندوق النقد الدولي، ويوضح بأن علاقة السودان مع الصندوق لا تسمح له بإملاء توصيات على الاقتصاد السوداني لجهة أنها علاقة فنية لا تتعدى الدراسات الفنية التي يجريها الصندوق على الاقتصاد السوداني، وأكد أن الاتجاه نحو سياسية الاقتصاد الحر تم برؤية سودانية بحتة بعد أن انتهجت معظم دول العالم هذا النهج، إلا أنه أبدى ملاحظة أن هنالك عدد من النماذج المختلفة لسياسية التحرير ووصفها بالمتميزة مثل نموذج الصين التي تبنت شراكة بين القطاعين العام والخاص، ويرى عبدالعزيز أن الدولة يمكنها التوسع في مسألة إصدار الصكوك والسندات، بجانب تعويله على مدخرات السودانيين العاملين بالخارج التي لا تأتي بسبب ضعف سعر الصرف في النوافذ الرسمية، وكشف عن عدم تمكن السودان الاستفادة من مبادرة أعفاء الديون بسبب القوانين الأمريكية التي تمنع رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وعدم رفع الحصار الاقتصادي، مؤمنا في الوقت ذاته على العلاقة مع دول (البريكس) والاستفادة من الاتفاقية المبرمة مع الصين في التعامل عبر اليوان الصيني عبر التعاملات معها للتخلص من سيطرة الدولار الأمريكي
اليوم التالي