منذ أسبوعين وأنا أود أن أكتب معربا عن إعجابي بالسيدة “تشا”، ولكن ولأنني أكتب مقالاتي في غالب الأحوال في البيت، فقد خشيت ان تداهمني أم المعارك وأنا في حالة تلبس، وتمسح بي الأرض.. وهكذا قررت سرقة دقائق من ساعات العمل الرسمي لأعبر عن إعجابي بالسيدة تشا.. حتى اسمها موسيقي.. وهناك رقصة اسمها تشاتشا تشا cha-cha.. ما قد يبعد عني الشبهات وبالتالي العدوان من ام المعارك، هو ان تشا هذه تبلغ من العمر 68 سنة. كما أنني لست معجبا بحلاوة وجهها او حسن حديثها او خفة ظلها بل بكونها ذات رأس “ناشف”.. عنيدة وصبورة ومثابرة.
السيدة الكورية تشا خضعت لامتحان قيادة السيارات للمرة الـ 772 (سبعمائة واثنان وسبعون فقط لا غير بلغة الصكوك المالية) ورسبت بجدارة، وعلى الفور عبأت استمارة الامتحان رقم 773!! أنفقت تشا حتى الآن 6800 دولار أمريكي أخضر في دفع رسوم الاستمارات الورقية.. كل ذلك الرسوب كان في الامتحان التحريري، ففي كوريا عليك ان تجتاز الامتحان التحريري لتثبت معرفتك بقوانين السير، ومعاني ودلالات اللافتات الموجودة في الشوارع، وبعدها تخضع للامتحان الميداني. والعمة تشا متفائلة بطبعها، وتقول إنها تأمل في الحصول على رخصة قيادة السيارات قبل بلوغها الخامسة والسبعين.. عندنا لو قرر شخص حشو ضرس مسوس وهو في السبعين قالوا له: اختشي على دمك.. تريد تأكل زمنك وزمن غيرك.
ما يعجبني في عناد طنط تشا ليس فقط أنها مصرة على الحصول على رخصة قيادة السيارات، بل لماذا تريد الحصول على الرخصة؟.. هي من مقاطعة جيولا الشمالية وتريد ان تعمل بالتجارة ولهذا فهي ترغب في ان تكون لها شاحنة صغيرة تقودها بنفسها لتصريف وتوزيع السلع.. يعني لا تريد لكزس او بي إم دبليو لزوم الكشخة والنفخة.. هي قليلة الحيلة والمال وتريد ان تؤمن “مستقبلها”.. في قاموسنا الاجتماعي يصبح الإنسان بلا مستقبل بعد ان يتجاوز الخمسين.. أما بالنسبة لتشا فالمستقبل يبدأ “الآن”.. و”الآن” هذه لم تأت بعد، ولن تأت إلا بعد ان يصبح بمقدورها ان تقود شاحنة بعد سبع سنوات بحسب تقديرها أي عندما يكون عمرها 75 سنة.
عندما تكون عربيا في سن الـ 75 لا يسمح لك أعضاء أسرتك حتى بالاستحمام بمفردك “ولو مُصِر خلي باب الحمام مفتوح”، حتى لو لم تكن ضحية مرض غدار.. هو نوع من الاهتمام ولكنه محبط.. محبط ان تجعل شخصا ما يحس بأنه عاجز استنادا الى لغة الأرقام.. ماذا يعني ان تقول لشخص ما لا تغلق باب الحمام وراءك سوى أنه “مرشح” لنوبة قلبية او جلطة.. وعندنا أناس يتولون إحباط أنفسهم بأنفسهم: تدعوه للطعام فيقول “إلى متى نأكل. منذ كذا وستين سنة وأنا أأكل.. لم تعد تفرِق معي”.. يا عزيزي هل تعرف انه عند سؤال المحكوم عليهم بالإعدام عما يرغبون فيه في الساعات الأخيرة قبل مواجهة الموت، فإن أكثر من 90% منهم يطلبون أطعمة معينة.. لا تجعل الحكومة تقتلك وتقتل فيك الرغبة في الحياة بإحالتك الى التقاعد في سن معينة، ولا تجعل أفراد عائلتك يقتلونك بالاهتمام والقلق الزائد على حالك.. كن مثل تشا وقل “المستقبل يبدأ الآن”.
زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com