اعترفت بعدم تمتعي بأي مهارات يدوية، وقلت إن ذلك جعلني احترم أصحاب المهن اليدوية من سباكين وكهربائيين ومزارعين وحدادين وخياطين وغيرهم، ولم أكن سأخجل من نفسي أو اعتبر نفسي فاشلا أو هزيل المكانة الاجتماعية، إذا كنت استرزق من ممارسة أي من تلك المهن، ليس فقط لأن بعض الحرفيين يكسبون من المال أكثر مما يكسبه الأستاذ الجامعي أو الطبيب الاستشاري، بل لأنني مؤمن ومقتنع تماما بأن العمل أي عمل شرف طالما هو شريف، ولكن هناك مهنة ما كنت سأقدر عليها حتى لو كانت سبيلي الوحيد لكسب القوت، وهي مهنة سائق حافلة/ باص ينقل الركاب من وإلى محطات معينة يوما بعد يوم، وأعتقد وقد أكون على خطأ أن تلك المهنة مملة: تخيل أنك سائق حافلة نقل عام داخل مدينة وخط سيرك محدد، وتتحرك يوميا من نقطة معينة وتقف عدة مرات في نقاط معينة لتحميل وإنزال الركاب ثم تعود بنفس الخط ويتكرر هذا الموال عدة مرات يوميا وسنويا.. أو أنك مكلف يوميا بقيادة حافلة من مدينة إلى أخرى لكذا ساعة ذهابا وإيابا، وتتوقف في محطات معينة بانتظام جيئة وذهابا، وتتكرر أمامك نفس المناظر التي رأيتها ربما مئات المرات، وما يجعل هذه المهنة مملة هي أن سائق الحافلة لا يستطيع أن يتونس مع الركاب، ولهذا تجده وكلما مرت به حافلة أخرى قادمة من الاتجاه المعاكس يقودها «فيصل القاسم»، يضغط على البوق ويرفع يده بالتحية، وهكذا فالبوق يقوم مقام الفم في الونسة عند سائقي الحافلات.
وبالمقابل فإن قيادة سيارة أجرة/ تاكسي ولو على مدى 14 ساعة يوميا أمر غير ممل، لأن سائق التاكسي يكون على مسافة قصيرة من الراكب/ الركاب وقد يبادر هو أو أحد الركاب بفتح موضوع يقود إلى ونسة، وكان رائجا بيننا أن الحلاقين هم أكثر الحرفيين قدرة على الثرثرة، وافتعال الونسة، ولكنني لم أقابل حلاقا ثرثارا خلال العشرين سنة الأخيرة بل لاحظت أن الحلاق يفتح فمه قبل الشروع في الحلاقة لمرة واحدة فقط لسؤال الزبون عن الستايل/ الطريقة التي يريد بها قص شعره، وبالمقابل فإن سائق التاكسي يستطيع استدراج الراكب للونسة بملاحظات مثل: شوارع زفت.. المشاة يقطعون الشارع مثل البهائم.. أكيد هذا الصعلوك الذي يقود البي إم دبليو ما عنده رخصة سواقة (هذه عبارة «حسد» تسمعها كثيرا ممن يقودون السيارات المكعكعة)
ولم يختر سائق الحافلة هذه المهنة المُرّة إلا لظروف أمَرّ منها، وهي «الحاجة»، أي المال الذي يعينه على كسب لقمة شريفة، وقس على ذلك: انظر إلى الفرّان/ الخباز في مخبز بلدي أو بائع الشاورما، وهو يواجه اللهب لساعات متصلة! هل اختار المهنة لأنها ممتعة؟ بالتأكيد لا يوجد شخص يعمل في مخبز بلدي أو بائعا للشاورما يستمتع بعمله، وبالتالي لا يختار المهن الصعبة والمملة سوى الشرفاء، والتنافس على تلك المهن ضعيف ومن ثم يسهل على كل راغب في ركوب الصعب أن يحصل على فرصة امتهانها.
ولكن كل هذه المهن كوم ومهنة حفار القبور كوم آخر، وأصعب ما في هذه المهنة هي أن الشخص المكلف بها مطالب بالإقامة في مقبرة، وتخيل أن تنام وتصحو وأنت تعرف أن كل جيرانك «موتى» يذكرونك بأن الدور جاي عليك، والأحياء الذين يتعامل معهم حفار القبور يكونون في مزاج لا يسمح لهم حتى بإلقاء التحية عليه أو شكرِه، لأنهم مكلومون بفقد شخص عزيز، وفي تقديري فإن حفاري القبور هم «أرجل» الرجال، أقول هذا لأنني من النوع الذي لا يمكن ان يشق المقابر بمفرده لا ليلا ولا نهارا.. يخيل إليّ أنه لو عبرت المقابر سأسمع صوتا لا أرى مصدره يقول: يا هلا.. وينك يا أبو الجعافر؟
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]