وحين تعانق كلمات عمر الدوش صوت مصطفي سيد أحمد، يغني الكون كله (سحابات الهموم يا ليل بكن بين السكات والقول/ وباقات النجوم الجن يعزن في المطر فاتن عزاك رجعن/ شوق رؤياك زمان مشدود على أكتاف خيول هجعن/ وصوت ذكراك رذاذ صفق على خطوات بنات سجعن). وعلى صدى رجع خطوات النساء الجميلات والرجال الغبش في ممشى الوطن العريض، ظل صوت مصطفى يحثهم على السير رغم الشجن الأليم، وبُعد المسافة، بل كان يحثهم على التحليق، أن أفردوا أجنحتكم وانضموا إلى أسراب الطيور (الما بتعرف لها خرطة ولا في إيدها جواز سفر)، ظلت أغنيات مصطفى تطبطب على الوطن وتصبر على حزن الغناء، وتقف على بابه ترفع عقيرتها، وتبث أسرار العشق المدفونة في الصدور على الملأ، فتغدو جهيرة وواضحة كقرص الشمس.
لامست أغنيات مصطفى سيد أحمد قضايا المحرومين، قضايا الوطن كلها، فكسب عداء السلطة وحب الجمهور الذي ظل يتابع حالته المرضية كما كان بتابع حالته الإبداعية، فقد من الفشل الكلوى 15 عاماً إلى فاضت روحه بالعاصمة القطرية الدوحة مساء الأربعاء 17 يناير 1996م، وكان استقبال جثمانه في مطار الخرطوم حدثا مؤثراً، إذ صارت ساحات المطار والشوراع المفضية إليه سرادق عزاء كبير.
وكأن الحزن يجتر ذاته، فبعد 17 عاماً نصبت الجماهير بذات الشوارع والساحات سرداق أضخم لاستقبال جثمان الراحل محمود عبد العزيز الذي لاقى ربه في العاصمة الأردنية عمان.
مدهش أن يكون الأمر محض صدفة، وإن كانت المقاربة بهذه الطريقة تبدو كقصيدة رثاء حزينة لكنها قصيدة واجبة الإنشاد في هذا اليوم الذي يصادف رحليهما، يوم يبدو كسر مكنون من أسرار هذا الكون، يوم حزن وعشق ووفاء، لكنه يوماً للتأمل، وإلاّ فأشيروا إليّ بسياسي سوداني واحد، زعم الناس أم لم يزعموا، أنه رجل عظيم ووطني، دأبت الجماهير على أحياء يوم رحيله كما تفعل الآن، كلهم مضوا فانحسرت سيرتهم، لا أحد يتغنى بأقوالهم ولا أحد يستعيد أفعالهم، بل وتكاد أجيال كاملة لا تعرف عنهم شيئاً، أما (مصطفى والحوت) فلا تزال أرواحهما ترفرف في وجدان الناس، ولا تزال أغنياتهما تحقن مفاصل المشاعر الجافة والجريحة والمنكسرة، والأرواح الهائمة والعاشقة بما يشبه السحر الآسر والأخاذ.
(اللهم أرحمهما وأغفر لسياسي هذه البلاد وأمنحهم شيء من التواضع ينظرون خلاله إلى سيرتي الحوت ومصطفى، تنيران لهما الطريق وتضيئان وجدانهم وتجعل لهم قبولاً بين الناس، يستعيدون ذطرى رحليهم).
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي