أقولها بملء فيّ إنه عندما يصدر مثل هذا الحديث عن رجل في وزن علي شمو بعلمه وعمره وشهادته على التاريخ كونه شارك في صناعته وشهد كثيراً من أحداثه فإنه يعني أن خطأ تاريخياً كبيراً قد ارتكب ينبغي أن ننقب في خباياه ونبحث عن أسبابه وتداعياته وما إذا كان من الممكن أن نصححه لنعيد صناعة التاريخ بما يحقق ما نرجوه لبلادنا المنكوبة.
هو ذات الشعور الذي انتابني بل وتملكني وسيطر عليّ حتى ألجأني إلى الصدع برأيي حول الخطأ التاريخي الأول الذي ورطنا فيه الاستعمار الإنجليزي لكي يعطل مسيرتنا وذلك حين زوّروا مؤتمر جوبا عام 1947م كما اعترفوا بأنفسهم بعد ذلك وليضموا إلينا جسماً غريباً هم الذين تعمدوا أن يجعلوه غريباً من خلال الانفصال الثقافي والاجتماعي الذي فرضوه بعزلهم الشمال عن الجنوب بقانون المناطق المقفولة حتى ينشئوا تلك العقدة التي رسّخوها في نفوس أبناء الجنوب فتفجرت في شكل حروب امتدت على امتداد رقعة الوطن مما شهدنا شاهداً شاخصاً عليه في أحداث الإثنين الأسود عام 2005م وأحداث الأحد الدامي عام 1964م في قلب الخرطوم وليس في توريت حيث انفجر التمرد لأول مرة عام 1955م أي قبل خروج الإنجليز من السودان.
كنت من حين لآخر وأنا أكتب عن مشكلة الجنوب أذكّر بأن الإنجليز لم يعملوا فقط على ضم الجنوب إلى الشمال رغم أنف الشعبين الشمالي والجنوبي إنما عملوا كذلك على فصل السودان عن مصر وقد أرخ لذلك الباحث الاستراتيجي جمال الشريف ووثقه من خلال استعراض الوثائق البريطانية والأمريكية والمصرية في كتاب موسوعي تفوق صفحاته الألف صفحة.
لماذا بربكم ضم الاستعمار الانجليزي الجنوب إلى الشمال وفصل السودان عن مصر؟
الإجابة لخصها علي شمو بعبارته الجامعة المانعة: (حتى لا يصبح البلدان قوة عظمى).
هل تذكرون مقولة وزير الأمن الإسرائيلي (افي ديختر) حول استراتيجية الدولة الصهيونية بشأن السودان..أن يغرق السودان في المشكلات حتى لا ينمو ويتطور ويستغل إمكاناته الهائلة، ذلك أن تطوره يجعله رصيداً داعماً لمحيطه العربي والإسلامي..لذلك كانت اسرائيل حاضرة بقوة في مشكلة الجنوب كما اعترف قائد التمرد الأول جوزيف لاقو وكما اعترف سفير دولة الجنوب وهو يقدم أوراق اعتماده قبل شهرين للرئيس الاسرائيلي ويقر بأن اسرائيل ظلت تدعم التمردات الجنوبية في كل مراحلها بما في ذلك تمرد قرنق.
اسرائيل موجودة كذلك في مشكلة دارفور كما اعترف المتمرد عبد الواحد محمد نور الذي فتح مكتباً لحركته في تل أبيب وأهم من ذلك فإنها كانت موجودة في انفصال السودان عن مصر كما أثبت جمال الشريف من خلال لقاءات بعض السياسيين السودانيين لتحقيق هذا الهدف بسفيرة اسرائيل في لندن قولدا مائير التي أصبحت فيما بعد رئيسة لوزراء اسرائيل.
الاستعمار البريطاني أيها الناس شيطان رجيم يستعبد أهل البلاد حين يكون حاكماً متحكماً فيها ولا يخرج منها إلا بعد أن يترك خلفه مشكلات كبرى تعطل مسيرتها..ترك الجنوب شوكة مزروعة في خاصرة السودان لكي تظل تدمى إلى الأبد ومنع الوحدة بين السودان ومصر بالرغم من دواعي الانفصال في الحالة الأولى ودواعي الوحدة في حالة السودان ومصر.
زرع الاستعمار البريطاني مشكلة كشمير بين الهند وباكستان قبل أن يخرج وزرع مشكلات الصومال وصنع مشكلة فلسطين بوعد بلفور وصنع اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت كثيراً من بلدان الشرق الأوسط بصورة شائهة ملغومة بالأزمات وأجهز على الامبراطورية العثمانية وصنع القومية العربية بديلاً للإسلام كجامع بين الشعوب العربية وفعل غير ذلك الكثير من المشكلات التي يعج بها العالم حتى اليوم كذلك فعل الاستعمار الفرنسي من المشكلات ما يحتاج إلى مجلدات.
لديّ اعتقاد راسخ أن انقلاب عبد الناصر على محمد نجيب صنعته بريطانيا حتى تحول دون وحدة السودان ومصر فبقدر ما كان عبد الناصر زاهداً في الوحدة كان محمد نجيب ذو الأم السودانية راغباً فيها. وقد تمكن الرجل من توحيد الأحزاب الاتحادية الثمانية تحت مظلة الحزب الوطني الاتحادي في فندق سميراميس بالقاهرة.
العجب العجاب أن الأحزاب الاتحادية نسيت قضية الاتحاد مع مصر بالرغم من أنها لا تزال تحمل ذات الاسم (الاتحادي)!
أفهم لماذا عارض حزب الأمة الاتحاد مع مصر وأفهم كذلك كيف ساندت بريطانيا حزب الأمة حتى يرفع شعار الاستقلال أو السودان للسودانيين وحتى يكون ترياقاً مضاداً للحزب الوطني الاتحادي وليت المؤرخين كتبوا بجرأة أكثر فللأسف أن تاريخنا لم يُكتب حتى الآن كما أنه مليء بالتزوير والتضليل وهذا حديث يطول.
أقول لبروف علي شمو..جزاك الله خيراً أن صدعت برأيك كما صدع السفير يوسف مصطفى التني منذ الخمسينات برأيه وطالب بانفصال الجنوب وكما فعل الوزير السابق حسن محجوب سكرتير حزب الأمة (جناح الامام الهادي) منذ عام 1967م حين قال إن الجنوب سينفصل طال الزمن أم قصر فهلا فصلناه الآن توفيراً لكثير من الجهد والمال والأرواح؟
عقبات كثيرة تحول الآن دون تحقيق الوحدة مع مصر ليس هذا مجالها لكن مصر بسكانها الذين يقتربون من المائة مليون لا متنفس لها وامتداد إلا في السودان طال الزمن أم قصر والأمر يحتاج إلى أن يطرق بصراحة شديدة بعيداً عن الأفكار الصغيرة والعصبيات الضيقة فما قاله شمو صحيح ويحتاج إلى أن تتناوله النخب في الدولتين لأن وحدتهما ستنشئ عملاقاً يناطح الكبار.
مصر هي مصر التاريخ والجغرافيا المذكورة في القرآن وكل الكتب السماوية وهي أرض الأنبياء التي صنعت كثيراً من أمجاد الأمة قهراً للصليبيين والتتار وهي التي ستسهم في تحرير الأقصى ذات يوم فهل يكون السودان جزءاً من تاريخ الأمة من خلال الوحدة مع مصر وهل يصبح السودان ومصر قوة عظمى في عالم لا يحترم غير الكبار وفي مستقبل لا يصنعه الصغار؟!
صحيفة الصيحة
خ.ي