اقتصاديات الغاز الآخر في مصر والبحرين

[JUSTIFY]
اقتصاديات الغاز الآخر في مصر والبحرين
(1)

كشفت مصادر إعلامية الأسبوع الماضي أن شحنة من الغاز المسيل للدموع كان من المفترض إرسالها إلى دولة البحرين من كوريا الجنوبية تم إيقافها بعد حملة من منظمات حقوقية وإنسانية، وانتقادات من المعارضة البحرينية. وتقدر قيمة هذه الشحنة كما قيل بثمانية وعشرين مليون دولار، يقال أن المملكة العربية السعودية تبرعت بها.

(2)

لفترة طويلة قبل اطلاعي على هذا الخبر، كنت أتساءل وأنا أشاهد الشرطة المصرية توالي كل يوم تقريباً قصف المواطنين المصريين في كل أنحاء مصر الشاسعة بكمية كثيفة من الغاز المسيل للدموع: كم ياترى تكلف هذه المقذوفات؟ ومن أين لمصر هذه الكميات اللا محدودة من القنابل؟ فنحن في البلدان العربية، بحمد الله، أساتذة في استدامة الدكتاتورية، ومعلمون في القمع، ولكن للأسف لم نصل بعد إلى تصنيع الأدوات اللازمة لهذه الفنون. وبالتالي أصبحنا عالة على الغير حتى في الشيء الوحيد الذي نحسنه.

(3)

إذا أجرينا عملية حسابية بسيطة، نجد البحرين اشترت في شحنة واحدة حوالي مليون ونصف مليون عبوة بهذه الكلفة، فإن مصر لو عملت بنفس المعدل (أي أربع عبوات لكل مواطن) فإن احتياجات مصر قد تصل إلى مليارات الدولارات من الغازات المسيلة للدموع فقط. هذا مع العلم بأن البحرين لا تستخدم هذه الأدوات بالكثافة التي تستخدم بها في مصر، وذلك لأن المظاهرات لا تتكرر بنفس الصورة اليومية ولا بنفس الكثافة.

(4)

لا تدخل في هذه الحسابات تكلفة تعبئة الشرطة والجيش والأمن، ونفقات العمل الإضافي لطول ساعات مداومة هؤلاء. وبالطبع لا يجب أن ننسى أرباح الوسطاء والمسؤولين، فالدكتاتوريات هي بؤر فساد فوق شرورها الاخرى. ففي هذه الأيام، لا تكاد قوات الشرطة والجيش تغيب عن شوارع المدن المصرية. وما أدراك ما تكلفة هذا الأمر، فالحروب مكلفة، خاصة حين تكون الحرب من الحكومة على شعبها.

(5)

الانقلاب وما سببه من اضطرابات أدى كذلك إلى ضرب السياحة، أحد أهم موارد البلاد ومصدر رزق الملايين. وبالطبع فإن الاستثمار الأجنبي قد توقف. وأهم من ذلك، فإن حالة الاضطراب وعدم الاستقرار عطلت العملية الانتاجية في معظم مناشط الحياة، حيث تمت التضحية بالاقتصاد من أجل أهداف سياسية.

(6)

لم يتم بعد حصر كل الخسائر التي نتجت عن الانقلاب، ولكن التقديرات تتراوح بين نصف إلى مليار دولار شهرياً من خسائر قطاع السياحة وحده. أما عن القطاعات الأخرى فحدث ولا حرج، علماً بأن الاقتصاد المصري كان في محنة أصلاً. وقد قدر بعضهم خسائر الاقتصاد المصري في العام الأول للثورة بثلاثين مليار دولار. وقد طرأ تحسن طفيف على الأوضاع أثناء حكم مرسي، ولكن حتى في تلك الفترة كان هناك عجز مستمر، مما اضطر الدولة للاستدانة بكثافة من الداخل والخارج.

(7)

هناك بالطبع وعود بتعويض تلك الخسائر من جهات عربية، ولكن لا توجد دولة على وجه الأرض تستطيع أن تسد عجز اقتصاد متداع مثل الاقتصاد المصري. وقد وعدت دول الخليج بتقديم 12 مليار دولار بعد الانقلاب، وقد كانت تلك ضرورية لمواجهة الالتزامات الملحة وقتها، وقد طالب السيسي حسب بعض التقارير بمئتي مليار دولار حتى يقبل بالترشح للرئاسة، وهو طلب من قبيل الأوهام، علماً بأن دول الخليج لم تف بتعهداتها السابقة على كل حال.

(8)

الاقتصاد ليس كل شيء، وإن كان معاش الناس وقوت يومهم مما لا بديل عنه. وقد شهدنا السوريين وقد فقدوا كل شيء، دون أن يفت هذا في عضدهم. فالحرية أغلى من كل شيء. ولكن المحنة هي أن يفقد الإنسان القوت والحرية معاً. فحين تنفق الدول المليارات فقط على أدوات القمع، فإن هذه دول تخطط لزوالها. فكيف تنفق ضرورات الشعب على الغاز المسيل للدموع لإخضاع الشعب وتركيعه؟ ومن أين يأتون بهذه الأموال، أليس من كد الشعب وعرقه؟ فالدول الأجنبية حين تقرض الاموال، حتى لتغطية نفقات الدموع والغازات المسببة لها، تقتضي رباها ذاك أضعافاً مضاعفة. وهكذا يدفع الشعب الثمن ثلاث مرات: مرة حين يغطي تكلفة القنابل، ومرة حين يصلى بنارها، وثالثة حين يدفع الفوائد.

(9)

يجب أن تسن في مصر وسوريا والبحرين والعراق وغيرها سنة حسنة جديدة، وهي محاسبة المسؤولين السابقين على تكلفة قراراتهم. فعندما تسقط الأنظمة الاستبدادية، وهي ساقطة لا محالة، يجب مقاضاة المسؤولين وورثتهم على تكلفة القرارات الإجرامية التي تولوا كبرها. فليس عدلاً أن تدفع الأجيال القادمة ديون وفوائد الغاز المسيل للدموع والقيود والسجون وأدوات القمع الأخرى، ناهيك عن الرصاص الذي قتل به أبناؤهم. فلا بد أن يدفع المسؤولون من أموالهم الخاصة (وهي في الغالب منهوبة) كل ما كلفوه الشعب. ولا يجب أن يستثنى من ذلك رجال الأعمال الذين تربحوا من هذا الظلم وسندوه.

[/JUSTIFY]

د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]

Exit mobile version