الطيب مصطفى: الإسلام بين المثال والتدرُّج في التطبيق

سعدت وأكاد أجزم أن قطاعات كبيرة من شعب السودان المسلم قد سعدت بالتعديل الذي شرعت لجنة تعديل القوانين في إجرائه على المادة 125 من القانون الجنائي وذلك بتجريم من يسب أصحاب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد تأخر ذلك كثيراً، وما كُنا نحتاج إلى ذلك التعديل لولا الانحدار الذي بلغنا قاعه السحيق حين خرج من بيننا بعض المتعالمين وأهل التشيُّع ليحطّوا من قدر أولئك الأفذاذ بناة أركان الإسلام في عهده الأول.

بلادنا تمور بأحداثٍ جسامٍ، وتحولات كبرى وهناك قوى علمانية تحارب الإسلام من خلال التخفي خلف عبارات معلومة مثل التهجُّم على ما تسميه بالإسلام السياسي، ونسى هؤلاء أن جعل الإسلام (عِضين) أو مزق متفرقة يكفرون ببعضه ويؤمنون بالآخر كالعبادات مثلاً لا يجوز بل هو الشرك بعينه والذي ذمه الله في كتابه العزيز إذ يقول: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ذلك أن رسالة التوحيد تقتضي عدم التفريق بين جزئيات الدين أياً كانت بما يعني أن يوحد الأمر كله لله تعالى بلا أدنى شعور بالحرج مما قضى الله به ورسوله، مع التسليم المطلق بذلك اعتقاداً راسخاً (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

اتساقاً مع فقه التيسير وعملاً بسنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أقول إن تنزيل الحكم وفقًا لما أمر الله به ليس بالضرورة أن يتم بين عشية وضحاها فقد كان التدرج خوف الفتنة من سنة الرسول الكريم فقد ظل في مكة 13 عاماً يطوف بالبيت الحرام وهو ممتلئ بالأصنام.

الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز الذي حكم عامين استخدم التدرج تأسياً بتحريم الخمر الذي تم على ثلاث مراحل فقد ذم الله الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة.

ذلك ما كان من راشد الغنوشي وصحبه وهم يقدمون ترسيخ الحريات التي لطالما عانوا من التضييق عليها على كل المطلوبات الأخرى الخاصة بتنزيل الحكم الإسلامي على المجتمع التونسي الذي تعرض لعملية استلاب ثقافي غربي على مدى عقود من الزمان وربما قرون.

ذات الشيء فعله رجب طيب أردوغان المتحمس لتنزيل الإسلام على المجتمع التركي الذي تعرض بعد زوال الخلافة العثمانية من خلال انقلاب أتاتورك الذي حاول اقتلاع الإسلام من تركيا.. تعرّض لعملية تغريب قسري استخدمت فيه يد السلطة القاهرة.

كل ما فعله أردوغان خلال العقد الأول الذي حكم فيه تركيا أن ينقل تركيا من العلمانية التركية المفروضة بقوة السلاح وسلطة الجيش العلماني المعادي للإسلام.. أن ينقل تركيا إلى العلمانية الأوربية التي توفر الحرية للمسلم حتى يمارس شعائره الدينية أو يعبر عن قناعاته الإيمانية وذلك تدرج بطيء للغاية اقتضته طبيعة المجتمع التركي الشبيه بالمجتمع التونسي، فقد تمكن أردوغان من إرجاع الجيش الفارض للعلمانية إلى ثكناته وإلى دوره الأصيل بعيداً عن السياسة التي تغوّل عليها كما فعل في كثير من الدول المتخلفة.

أود قبل الحديث عن السودان أن أُذكِّر بأن الرسول الكريم قال لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وأقمتها على قواعد إبراهيم).

إذاً فإن الرسول الكريم لم يُقم الكعبة المشرفة التي تمثل القبلة للمسلمين خوفاً من الفتنة التي يمكن أن تُنشئ معارضة، وعدم تقبُّل لقرار خطير لم يُهيَّأ له المسلمون أو يستعدوا لقبوله تماماً، كما أن تحريم الخمر دفعة واحدة قبل أن يُهيَّأ المؤمنون الذين حرَّم أصحاب العزائم منهم الخمر بعد نزول الآية الأولى التي علموا من خلالها أنها مكروهة وتتعارض مع العبادة وتنتقص منها، ثم تدرج الأمر إلى أن أقلع أقل المؤمنين عزيمة عند صدور حكم التحريم بصورة حاسمة ونهائية.
ذلك ما يجعلني أتقبّل منطق من يطالب بالتدرُّج في التطبيق بحجة أن المجتمع السوداني ليس مُهيأ تمامًا أو أنه انتكس وارتكس وتردى من حيث التزامه وتديُّنه أو أنه تأثر بموجات التغريب التي تعرّض لها من خلال الغزو الثقافي الكثيف جراء الرياح العاتية من مناطق الضغط الثقافي المرتفع المندفع بالتقانات الحديثة، لكن لا يجوز البتة مثلاً أن ينكسر الناس ويتخلوا عن المثال الذي ينبغي أن يضعوه نصب أعينهم اعتقاداً راسخاً لا يتطرق إليه أي انهزام أو حرج ويعملوا من أجل بلوغه.

المعوّل عليه كثيراً النية التي يُحاسَب عليها الفرد المسلم يوم يقوم الناس لرب العالمين ذلك أن الإمام ابن القيم يقول إن أهل الايمان لا يخرجهم تنازعهم عن مُسمى الإيمان إذا رَدُّوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما أن المهم كذلك ألا يُترَك أمر تنزيل الإسلام وشرائعه على واقع الناس بلا ضابط من زمن أو خطة، فعلى ولي الأمر المسلم أن يضع خريطة طريق وخطة تقوده بالتدرُّج نحو المثال وسيُحاسب من الله العزيز إن حدث العكس وانتكس المجتمع بعيداً عن قيم الإسلام وشرائعه.

الطيب مصطفى- الصيحة

Exit mobile version