ليس ذلك فحسب، فالخرطوم تستهلك في الحقيقة 75% من كهرباء البلاد، إذا أُضيف القطاعان الصناعي والزراعي إلى القطاع السكني. وبالمناسبة هذه الإحصائيات صادرة من الجهات المختصة.
بالطبع لا نحتاج إلى أن نذكّر بما هو معلوم من أن الخرطوم يقطنها حوالي ربع سكان السودان بعد أن أصبحت مبتغى الفقراء والباحثين عن الرزق والأغنياء الباحثين عن النعيم، ذلك أنه ما من صاحب مالٍ تقريباً بات يرضى بأن يُقيم خارج الخرطوم التي تتوافر فيها الخدمات العصية على الولايات الأخرى التي تئن تحت وطأة الفقر وانعدام الخدمات ووسائل الراحة.
إذا كان ولاة الولايات يبقون أولادهم في الخرطوم وهم الحكَّام، فهل يستطيعون أن يُقنعوا رعاياهم بالبقاء في ولاياتهم؟! إنها أقوى رسالة لكل أهل السودان من أولئك الولاة أن تكدَّسوا في الخرطوم التي ليس الولاة المبقون أسرهم فيها فقط من يحرِّض على الهجرة إليها إنما الفضائيات والإذاعات المركَّزة في الخرطوم، والتي تعرض كل ما يصوِّرها جنة ينبغي أن يفر الناس غنيُّهم وفقيرُهم إليها من أجل العيش الهانئ في رحابها.
الأهم مما جعل الخرطوم قبلة الأثرياء الفرق الهائل بينها وبين بقية الولايات في خدمات التعليم والصحة وغيرها، فعندما تحصل الخرطوم على أكثر من 80 من المائة الأوائل في امتحان الشهادة السودانية فإن ذلك يعبّر بصورة أخرى عن الـ 75% في استهلاك الكهرباء التي ذكرناها في مقدمة هذا المقال!
هذه مجرد مؤشرات لظاهر الأزمة دون الغوص في أبعادها الأخرى خاصة السياسية والأمنية، مما ينبغي أن يستنفر كل مؤسسات الدولة لإيجاد المعالجات لهذا التشوُّه الكبير الذي يطول كل شأن من شؤوننا.
المتفوقون من طلاب الشهادة الثانوية المقيمين في الولايات يزهدون وأسرهم من جامعاتهم القريبة من دورهم ولا يرضون إلا بجامعة الخرطوم وصويحباتها في العاصمة.. حتى الفتيات يشددن الرحال إلى الخرطوم بعيداً عن أسرهن في القضارف وشندي ونيالا بالرغم من وجود جامعات في تلك المدن والولايات.. أعجب من ذلك أن طلاب الخرطوم الحاصلين على نسب أقل ونتائج أضعف يلتحقون بطب وهندسة الجامعات الولائية، وكأن ما سُمي بثورة التعليم العالي قصدت أن تنشئ جامعات درجة ثانية في الولايات مكرِّسة بذلك مفهوم التهميش الذي يجعل الخرطوم قبلة للباحثين عن السلطة والثروة والخدمات ويثير العصبيات الجهوية والإثنية ويشعل التغابن في وطن مأزوم.
كل كلامي السابق بالرغم من أنه يوجع القلب ويفقع المرارة، ويكشف عن حال السودان البائس الذي يخلي مساحاته الشاسعة ليقيم في بقعة ضيِّقة تُسمى الخرطوم، يعبِّر عن الأزمة بكل تجلياتها ويكشف عن عجز في اتخاذ القرار الصحيح يسبقه التخطيط والبصر النافذ إلى المستقبل.
سياسات ذكية كان من الممكن أن تحل كلاً من المشكلات التي تفاقمت، فثورة التعليم العالي كان ينبغي أن تصحبها قرارات تحول دون إضعاف الجامعات الولائية، كما أن تكدُّس الخرطوم بالناس والخدمات كان من الممكن أن يُعالج بقرارات إدارية تشتمل مثلاً على سياسات التمييز الإيجابي لمن يدرس في الجامعات الولائية.
عندما قلتُ للأخ المتعافي والي الخرطوم وقتها في اجتماع القطاع الاقتصادي بمجلس الوزراء لماذا لا تُحدث توأمة بين ولايتك الغنية وولاية أخرى فقيرة أو ولايتين تمكن من اقتسام ثروة الخرطوم الهائلة وتبقي الناس في ولاياتهم انحاز لولايته وحق له، ورد عليّ رداً مقنعاً، ولكن ماذا عن صاحب القرار الذي ينبغي أن ينحاز لكل السودان بما يحقق العدالة ويزيل التفاوت (الطبقي) الذي يهدد الأمن الاجتماعي والسياسي.
أُنقِّب عن سبب واحد حاسم من بين الأسباب الكثيرة لهذه التشوُّهات التي تعكس البون الشاسع بين الخرطوم وغيرها، ولا أجد أهم من الحكم الفيدرالي أو ما يمكن تسميته بالقفزة المجنونة في الهواء التي أحدثت من الكوارث السياسية والاقتصادية والأمنية ما أحال السودان إلى كيانات قبلية متنافرة تشتعل بحروب داحس والغبراء.
الطيب مصطفى- الصيحة