العواصف الأربع آتية وبسرعة من تقرير مدعية المحكمة الجنائية القاضية فاتوا بنسودا، ثم التأكيد على بقاء اليوناميد وتوتر العلاقات مع دولة جنوب السودان، وأخيراً خطاب أوباما الموجه الى مواطني السودان وجنوب السودان وليس لحكومتيهما.
نبدأ بالعاصفة الأولى وهي تقرير بنسودا في جلسة مجلس الأمن رقم 7337 بتاريخ الجمعة 12 ديسمبر 2014 وقد استمعت اليه بدقة وفي لغته الانجليزية بصوت بنسودا، خلصت الى أن التقرير خطير للغاية ويحمل مؤشرات أكثر خطورة، مما يجعلني أن أعتقد أن هناك جهة دولية أوعزت للمدعية بتقديم هذا التقرير بهذه الحدة وفي هذا الوقت، تبدأ بنسودا تقريرها بسردها لقرار المحكمة السابق بأن هناك أشخاصاً محددين هم وراء ما حدث ويحدث في دارفور، وصدر أمر من المحكمة بالقبض عليهم.. ونقول إن عدم القبض عليهم وتقاعس مجلس الأمن في دعم المحكمة حفز المطلوبين بالاستمرار في أعمالهم في ترويع المدنيين، وقالت إن الاغتصاب والجرائم ضد الأطفال والنساء أصبح سمة سائدة في دارفور، حتى أن النساء بدأن يسألن عن ما هو العدد اللازم المطلوب من حالات الإغتصاب حتى يتدخل مجلس الأمن لحمايتهم، وقالت بنسودا إنه حوالي عشر سنوات من التقارير المرسلة من المحكمة الى المجلس مضت ولم يتخذ المجلس اجراءات حاسمة، وطالبت المجلس بابتداع وسائل مبتكرة خلاقة للقبض على المطلوبين بأسرع وقت ممكن.. وقالت إن هناك مائتي حالة اغتصاب تمت قبل أيام في قرية تابت بدارفور، والحكومة السودانية منعت أي تحرٍ أو تحقيق في هذه الاتهامات الخطيرة، وشددت على التحقيق في تقارير اليوناميد المعدلة والناقصة، وأيدت الأمين العام للأمم المتحدة في التحقيق في هذا الأمر.. وأشارت الى رحلات الرئيس البشير الخارجية لدول كان من المفترض فيهم التعاون مع المحكمة في أمر القبض، وأشارت بنبرة حادة الى تعميق الأزمة ونزوح المدنيين بسبب القصف الجوي وإنشاء قوات جديدة تسمى قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان (حميدتي) ذكرته هكذا بالاسم قائلة إن هذه القوات مليشيات إضافية لمليشيات الجنجويد تقتل الأبرياء وتعتدي على الأطفال والنساء مما أدى الى تزايد النزوح خلال هذا العام وتعدت بنسودا حدود دارفور لتتحدث عن عدم توفر العدالة على المستوى القومي، وطالبت في ختام تقريرها المجلس باتخاذ اجراءات جديدة مبتكرة وفعَّالة لوقف التدهور الأمني في دارفور وترويع المدنيين، خاصة النساء والأطفال.. كان هذا تلخيصاً دقيقاً وترجمة حرفية لتقرير مدعية المحكمة الجنائية الدولية في جلسة مجلس الأمن يوم الجمعة 12 ديسمبر، هذا ما كان من أمر العاصفة الأولى.
العاصفة الثانية هي التأكيد على بقاء اليوناميد، والتأكيد على استمرار قرار مجلس الأمن رقم 1769 في يوليو 2007 والذي هو تحت الفصل السابع حسب ما جاء في مادته (15) وفي (16) تتحدث عن عدم التسامح في جرائم الاغتصاب، ومادته (24) التي تحدد آلية إنهاء عمل اليوناميد، وفي هذه المادة يحدد مجلس الأمن أنه الجهة الوحيدة التي تنهي مهام اليوناميد بناء على معلوماته عن تحسن الأوضاع وتوصية الأمين العام دون أية إشارة الى أي حق للسودان في طلب إنهاء عمل اليوناميد أو طردها من دارفور..
العاصفة الثالثة هي التوتر المفاجئ الخطير بين دولتي السودان وجنوب السودان في ظل اتهام السودان بتواصل دعم دولة الجنوب للجبهة الثورية في الآونة الأخيرة، مؤشرات خطورة هذه العواصف تتمثل في:
أولاً: التزامن المريب لحدوثها في وقت واحد تقريباً
ثانياً: الرفع المفاجئ لسقوفات مطالب قطاع الشمال بعد أن اقتربت الجولة الثامنة من التوافق.. وثالثاً في رد د. جبريل ابراهيم رئيس حركة العدل والمساواة على سؤالٍ الأسبوع الماضي عن توقف نشاط الجبهة الثورية العسكرية، واحتمالات اختراق الجبهة الثورية قال: إن ذلك لم يحدث وأنهم ووفق استراتيجية جديدة يعملون، وأضاف أن الأيام القادمة ستثبت ذلك.. من هذا الحديث، وذلك السقف العالي الجديد لقطاع الشمال يتأكد أنهم جميعاً لا يتحدثون من فراغ و(مالين ايديهم) بشئ ما.. عليه يجب التحسب وتقدير الموقف- كما يقول العسكريون- أو كما تحكي الطرفة أو الحكمة كما أوردتها قبل ذلك وهي أن لصاً سطا على منزل (عزابة) سبعة وجدهم (نائمين) في الحوش، دخل الغرفة وجمع مقتنياتهم وعندما هم بالخروج وجد السرائر خالية من أصحابها غفل راجعاً وأحكم قفل الغرفة وصاح عالياً مطالباً البوليس ليحميه.. هناك شئ ما كبير وخطير يحاك إذا أحسنا قراءة تقرير بنسودا، حيث نجد فيه مؤشرات واضحة للتدخل الأممي مثل تركيز حديثها على أن ترويع المدنيين واغتصاب النساء أصبح سمة بارزة في دارفور، ابتكار وسائل جديدة لتنفيذ أمر القبض في حق الرئيس والآخرين، ثم حديثها العام وخارج قضية دارفور عن عدم توفر العدالة على المستوى القومي وتركيزها على قضية ادعاءات الاغتصاب في قرية تابت، وهي تعلم أن ميثاق الأمم المتحدة يتحدث عن درجة صفرية للتسامح في مسألة الاغتصاب وورد هذا النص في المادة (16) من قرار تكوين اليوناميد رقم 1769
كل ذلك مقصود منه إثارة الحكومة لتصعيد العمل العسكري في ظل دعم الجبهة الثورية وقطاع الشمال، الأمر الذي يؤدي الى مزيد من النزوح ومعاناة المدنيين حتى تكون هناك ذريعة مقبولة للمجتمع الدولي لقبول إعمال المادة (24) من الفصل السابع، وهي التدخل العسكري الكامل بواسطة دولة أو دول يحددها الأمين العام كما في المادة (24) هذه.
عليه السيناريوهات المتوقعة كما يلي:
– فرض حظر الطيران العسكري والمدني في دارفور والمنطقتين.
– العمل على إلقاء القبض على الرئيس دون الرجوع لمجلس الأمن مرة أخرى، وتوجيه رسائل مبتكرة كما قالت بنسودا في تقريرها لإحداث فراغ رئاسي ودستوري في السودان، يؤدي الى فوضى عارمة تتيح التدخل الأممي المباشر، ذلك لعلمهم التام بأن الرئيس البشير هو مركز الثقل في تماسك السودان الحالي، ومركز التوازن والتناغم الوحيد بين الأجهزة الأمنية الثلاثة الجيش- الشرطة والأمن القومي.
– فرض حلول مثل ما حدث في نيفاشا بمنح حكم ذاتي لكل من دارفور والمنطقتين، كل ذلك سيتم دون إعتراض من روسيا والصين ونعيد حديث وزير خارجية روسيا لافروف عندما قال: إن دعمهم العسكري للسودان محسوب بحيث لا يؤثر على التوازن الاقليمي وقوله: إنهم ملتزمون بقرارات الأمم المتحدة.
عليه يجب أن نقابل هذه العواصف المفاجئة القوية باستراتيجيات وسياسات جديدة وجريئة في إدارة السودان تتمثل في الإشراف الكامل للرئيس البشير على مجريات الأحداث حتى أبريل 2015 وإعلان مبادرة صادقة لمصالحة وطنية جامعة تسبق الحوار الوطني بشكله الحالي الناقص كثيراً، وإعلان العفو العام وتشكيل وفدين جديدين شكلاً ومضموناً لإدارة مفاوضات جادة مع قطاع الشمال وحركات دارفور المؤثرة في منبر جديد خلاف الدوحة، بتفويض كامل يشمل إعادة هيكلة حكم السودان في أقاليم كبرى ثمانية هي: دارفور- كردفان- جنوب كردفان- الشرق- النيل الأزرق- الشمالية- الأوسط والخرطوم، هذا التقسيم يقلل من حدة وتميز مناطق بؤر الصراع المسلح والمدني في دارفور والمنطقتين، ويقلل كثيراً من سقف المطالب الجديدة لقطاع الشمال ويزيل حاجزاً نفسياً كبيراً من حركات دارفور الكبيرة وغير الموقعة على اتفاقات الدوحة، إذ أنني لا أرى سبباً وجيهاً للتمسك بمنبر الدوحة فقط ولا عيب في التراجع والتوافق على منبر جديد يمكن من حل المشكلة.
أخطر هذه العواصف هي الرابعة- (إذا كانت صحيحة)- عندما ظهرالرئيس الأمريكي أوباما مخاطباً شعبي دولتي الشمال والجنوب فيما يشبه التحريض العلني والوعد والوعيد، بمساندة أي جماهير شعبية في إحداث التغيير نحو السلام.. قال أوباما (في الأسابيع الماضية أزهقت أرواح بريئة منكم من الرجال والأطفال والنساء، وبالرغم من ذلك زادت التصريحات الملتهبة التي سوف تنقلكم مرة أخرى الى جحيم الحروبات.. اليوم أريد أن أخاطبكم مباشرة يا جماهير الشعبين في السودان وجنوب السودان كل التقدم الذي حدث في الفترة الماضية معرّض الآن للإنهيار، ورسالتي لكم أن تتحركوا لأن خيار الحرب ليس حتمياً، وما زالت هناك فرصة ودور تلعبونه، وما زال أمامكم خيارين السلام أو الحرب.. ومن جانبنا نحن نعلم ماذا يجب أن تفعل حكومة السودان- عليها وقف كل الأعمال العسكرية بما في ذلك القصف الجوي والسماح بوصول الإغاثة، ثم وقف دعم الحركات المتمردة على حكومة جنوب السودان، وكذلك فليعلم كل المتحاربين في جنوب كردفان والنيل الأزرق أن الأزمة لا يمكن حلها إلا بالتفاوض وكذلك حكومة جنوب السودان عليها وقف دعم المتمردين على حكومة السودان، ولا يمكن أن تنعم دولة بالاستقرار والرفاهية اذا كان جارها يحرمها ويرفض أن يكون شريكاً لها في التجارة والتبادل التجاري.. نعم صحيح أن السلام عملية شاقة لكنكم تملكون القوة لتعززوا الخطوات التالية والمؤدية الى السلام، وأقول لكم يجب أن تعلموا أن معكم في هذا الاتجاه الولايات المتحدة الأمريكية بكل قوتها).
هذه أخطر رسالة من رئيس أخطر وأكبر دولة في العالم، تجاوز كل الأعراف الدبلوماسية مخاطباً مباشرة شعبي السودان وجنوب السودان للتحرك نحو السلام وتغيير أنظمتهما التي لا ترغب في السلام، مؤكداً أن أمريكا بكل قوتها معهم وهذا معناه يا حكومات السودان وجنوب السودان هذا أو الطوفان الأمريكي، ولا تحمل كلمة اوباما هذه غير هذا، ولا تحتمل الادعاء بالتقليل منها أو تأويلها أو الالتفاف حولها، وكل ذلك مقدمة للسيناريوهات التي أوردناه.. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
والله الموفق.
صحيفة آخر لحظة
تقرير : م/ عمر البكري ابو حراز
ت.إ[/JUSTIFY]