كل ذلك عادة ما يكون مقدمات لجرائم غامضة، أشبه بروايات (أجاثا كريستي)، تدوَّن بلاغاتها ضد أشخاص يسقطون من علوٍ شاهق.. خذ مثلاً، استهتار بعض الشباب في الاحتفالات الخاصة والعطل الأسبوعية، وهم يقومون بممارسات ربما كانت بريئة، لكنها تتنافى مع الذوق والسائد من القيم والعادات والتقاليد. والأخطر تصوير مقاطع خليعة بعد الانغماس في الملذات، بالطبع، فإن أولئك الشباب هم ضحايا قبل أن يكونوا مجرمين، وعادة ما يلجأ أصحاب القلوب المريضة لبث طيشهم في الوسائط الإعلامية، ربما بغرض الابتزاز، ما عرَّض أسراً للانهيار، وسرعان ما تتشتت أيدي سبأ، وتتلاشى كفقاعات الصابون في الهواء.
ومع الاستعدادات للاحتفال برأس السنة، تُحذِّر السلطات الأمنية، والمنابر على حد سواء، من خطورة العادات الوافدة على المُجتمع. وتعتزم ولاية الخرطوم حالياً، تنفيذ حملات رقابة ودهم على الشقق المفروشة بالتزامن مع الاحتفالات، للحد مما أسمتها (الأعمال المُخلة بالآداب والظواهر السالبة).
ربما تبالغ حكومة ولاية الخرطوم في تشددها بشأن السلوك المتوقع.. لكن لا أحد يمكنه تجاوز ما يدلي به المختصون في دراسة سلوك المجتمعات.. يقول الدكتور عبد الرحيم بلال، أستاذ علم الاجتماع لــ(اليوم التالي): “إقامة الحفلات الماجنة، وسوء استخدام الشقق المفروشة، أشياء لا تبدأ ولا تنتهي باحتفالات رأس السنة”، ويدعو إلى النظر في الأسباب الجذرية للتفكك الأخلاقي، وعدَّ محاولات الحكومة الموسمية للقضاء على الظاهرة، محاولات آنية وقاصرة، ومحض تجزئة للمشاكل لا تجدي فتيلاً.
وكانم اللواء عمر نمر، معتمد محلية الخرطوم الأسبوع الجاري أذاع نبأ مصادرة الحكومة (4) منازل وإخلائها مؤقتا لستة أشهر، وفقا للقانون، بعد أن ضبطت الشُرطة (35) متهماً ومتهمة في هذه المنازل يزاولون أعمالاً مُخلة بالمجتمع.
وتشير تقارير صحفية إلى أن قضية التفكك الأخلاقي المُنتشرة بكثافة، ربما لا تحتاج إلى شقق مفروشة ومصادرة المنازل المشبوهة لتغطيتها، وأن الوضع العام للحالة ينذر بالخطر، ويحتاج إلى وقفة جادة، وتوصي ملخصات الصحافة بعقد ورش مُتخصصة لمعرفة الأسباب الرئيسة لتلاشي القيم المتفق عليها في المُجتمع. من جهته، كشف الشيخ كمال رزق إمام وخطيب مسجد الخرطوم الكبير، عما أسماها (مؤامرة خطيرة لأعداء الإسلام تنفذها عصابات منظمة تستهدف الفتيات المحجبات لإرغامهن على التخلي عن الزي الإسلامي المحتشم). وقال رزق في خطبة الجُمعة الماضية، إن ذات العصابات تقوم بمضايقة المحتشمات بصورة ممنهجة، وحذر من خطورة استمرار المؤامرة، مطالباً أولياء الأمور والسلطات بالانتباه لما يحيكه أعداء الدين، وشدَّد على ضرورة حسم العصابات وقطع دابرهم.
لكن أستاذ علم الاجتماع، عبد الرحيم بلال، يؤكد لــ(اليوم التالي)، أن الأسباب الجذرية للظاهرة تتمثل في انهيار الاقتصاد، والعطالة، وانهيار الريف، والترف المادي لبعض الفئات المُجتمعية، من الشباب والفتيات، وتبديد أموالهم في قضايا انحرافية، فضلاً عن الشرائح الفقيرة، ونزوحها إلى المدينة، لكنه أوضح أن القضية في كلياتها لا تُعالج ظرفياً، وتحتاج إلى علاج جذري، يقتلع أُس المُشكلة نهائياً.
واستدعى جهاز الأمن والمخابرات الوطني، (الأحد) الماضي، صحافية في جريدة (التيَّار)، لكتابتها تحقيقاً بعنوان (سوق المتعة) تقصى حول منازل تمارس داخلها الدعارة داخل أحياء الخرطوم، وحوى التحقيق معلومات صادمة عن ممارسة الدعارة في منازل أسر داخل أحياء عريقة وراقية في الخرطوم. وينبه الشيخ رزق، إلى ضرورة أهمية تفعيل قانون النظام العام لاجتثاث العادات الدخيلة والظواهر السالبة في الطرق والميادين العامة باعتبار أنها تتنافى مع أخلاق المسلمين ولا تشبه عادات السودانيين، لافتاً إلى تزايد أعداد مرتادي مراكز المساج والشقق المفروشة، سيمَّا وأن أغلبها مشكوك فيه بكونه مكاناً تمارس فيه الدعارة.
في وقت سابق، أعلنت الغُرفة الفرعية للمكاتب العقارية والشقق المفروشة بالخرطوم عن تنظيم حملات لضبط ومراقبة وحصر الشقق المفروشة، بالتنسيق مع السُلطات الأمنية وعدد من الجهات المُختصة لمحاربة الجرائم والظواهر السالبة التي تتخذ من الشقق مسرحاً لها. وقال مدير إدارتها خالد يس شرف الدين، إن اللجان وفرق العمل شرعت في حصر وتسجيل الشقق وتجميع البيانات الخاصة بالملاك والوكلاء بجميع مناطق الخرطوم، ونوَّه إلى أن مرحلة الحصر والتسجيل ستعقبها حملات مكثفة خلال الأيام المقبلة تزامناً مع احتفالات رأس السنة، سيمَّا وأن كثيرا من الفئات تستخدم الشقق ملاذاً لها. وشدَّد على أصحاب الشقق والمستأجرين بضرورة التعامل مع الفرق والإدلاء بالمعلومات الصحيحة، مشيراً إلى وضع عقوبات رادعة للمخالفين خاصة الذين يدلون بمعلومات غير دقيقة وخاطئة. ودحضاً للعلاج الآني، يقول بلال، إن الجهات المُختصة عليها ملاحقة التمايز الطبقي في البلاد.
وأصدرت لجنة تنسيق شؤون أمن محلية الخرطوم برئاسة المعتمد حزمة قرارات وإجراءات لتنظيم احتفالات أعياد الاستقلال والمولد النبوي الشريف والكريسماس تشمل تكثيف الوجود الأمني في مواقع الاحتفالات ورفع درجة الاستعداد بنسبة (100%)، وإلزام أماكن الاحتفالات والصالات بضوابط التصاديق الممنوحة من جهات الاختصاص. وتركز السُلطات على مناطق التجمعات خاصة في شارع النيل والصالات والحدائق، وأقرَّت زيادة الإنارة وإزالة أشجار المسكيت جوار الشواطئ التي تُشكِّل ملاذاً للمُخالفات، فضلاً عن التشديد على منع “التفحيط” بالسيارات وتقديم المُخالفين للمُحاسبة القانونية.
ويقول رئيس شعبة الشقق المفروشة بولاية الخرطوم، خالد ياسين في حديث منشور، إن أكثر الأفعال التي يتم ارتكابها في الشقق المفروشة هي جرائم المُخدرات والتزوير والتزييف وطائفة الجرائم الأخلاقية والتجسس والجرائم الموجهة ضد الدولة, وهذه جرائم يقوم بها متهمون لديهم المقدرة المالية الكافية لإيجار شقة مفروشة، وربما فاخرة، مع سيارة مستأجرة للتضليل والهروب من الرقابة اللصيقة. وفي خاتمة المطاف تظل معضلة الشقق المفروشة هاجساً يؤرق المجتمع، وتحتاج إلى ضوابط مُشددة، لحماية المجتمع من التفكك والانحلال.
اليوم التالي
خ.ي