جدتي أمرأة متوسطة الطول قمحية اللون دائمة الإبتسام تحب الونسة (الحكي) وتؤمن بكرامات الأولياء وأهل الله البينين، وتجلس وسط راكوبتها الواسعة النظيفة والمرشوشة أمام كانون الجبنة وحولها نساء الفريق متحلقات حولها لسماع كرامات الصالحين وأولياء الله الذين لاخوف عليهم ولاهم يحزنون اهل الفزعة وشيل الوجعة، توصيها النساء بجلب البركة من الضريح وقضاء الحاجات وإجابة الدعوات وتعتقد جدتي جازمة ان هؤلاء الموتى يسمعون ويجيبون ولذا تذهب لزيارتهم كل يوم جمعة عند العصر تأخذ معها تمراً وسكر توزعه على الضريح وبعض الرايات وتنده( ياود التنقار يا ابفزعاً حار يا الساكن البرسي وسنار جيتك زايرة ماني غايرة، شايلة معاي وصية والوصية في الذمة، العازة بت مساعد دايرة الجنا تبرد حشاها وتزيل أذاها وتديها الفي مرادها) عند ذهابها يلحق بها الصغار طمعاً في الإستئثار بتمر البنية البعالج بالنية، فتضحك معهم ممازحة ( ابوي الشيخ يلحقكم ويفزعكم ويديكم الفي مرادكم) أها آوليداتي أبقوا متراوحين… وتقفل راجعة للحلة ساعة المغيب، تصلي المغرب وتجلس ممسكة بمسبحتها للإستغفار والصلاة على الرسول(ص)، إعتادت جدتي على زيارة يوم الجمعة وأخذ وصايا النساء لتوصلها لشيخ البنية كنت اراها سعيدة بهذا الأمر لم تشكو يوماً من كثرة الوصايا ولا تحلق النساء حولها للشكوى وطلب الفزع والعلاج، كنت اتعجب من دقة هذا التوقيت عصر كل جمعة تذهب للمقابر ومعها التمر والسكر وخلفها الأطفال ثم تعود قافلة لتصلي المغرب وتسبح وتحتسي قهوة المساء، تحيك جدتي الأطباق لتغطية الصواني التي يُحمل عليها الطعام وهي بالعامية عملية (الشفاية) او النسيج بالسعف والقش الملون وتتبارى مع نساء الفريق في الإنتهاء من عملية الشفاية ليبدأ مشوار حياكة آخر وتبيع ما تكمله من (طُباقة) لمريم التي تشتري هذه (الطُباقة) وتبيعها في قرى أُخرى، ذهبت اليها ضحى أحد الأيام فوجدتها تحضر لقهوتها كالعادة ومعها العازة وجدتي تتحدث كمن انتصر في معركة( أها ما قلت ليك الفي مرادك يتم بقدرة الله والبياض الأديتيني ليهو زدت عليهو ووديتو ليك عِلا يالعازة لازم تعملي ليك كرامة وتوزيعيها عشان شلتي الجنا الكنت عشمانة فيهو ليك سنين الله يتمو ليك) والعازة إحدى نساء القرية التي لم تنجب منذ زواجها وصبرت أكثر من عشر سنوات حتى تم لها ما ارادته ومن فرط سعادتها لم تصبر على خبر حملها فجاءت تزف البشرى لجدتي وتخبرها بما حدث، فإستبقتها جدتي لمشاركتها قهوة الضحى (يلحقني ويفزعني ويقضي غرضي ويشفي مرضي). سألتها ( أنا عايزة أعرف انتي الحاجات البتوديها لود التنقار دي بتمشي وين) ردت ضاحكة ( دي الكرامة يابتي بعدين بياكلوها الشفع تنفعهم ان شاء الله)، سالتها مجدداً انتي يا حبوبتي ود التنقار دا بسمعك لمن تندهي ليهو) ردت مؤكدة ( يا بتي عاد كيفن ما بسمعني أجي يا بنات امي والله دا واحد دا اكان ما بسمعني بديني الدايراه كيفن) رددت عليها (إحتمال انتي بتتخيلي بعدين دا انسان ميت حتى ولو كان شيخ وصالح دي خرافات ياحبوبة) قفزت من مقعدها كمن لدغته عقرب وقالت بغضب (يا بت استغفري انت جنيتي ولا شنو خلينا كل شئ دايرة تتكلمي في الأولياء الصالحين، تلحقني يا ابوي الشيخ وتفزعني صغيرة وجاهلة وما جايبة خبر وما ها عارفة حاجة!!) كنت اقابل صياحها وخوفها الزائد بصمت مشوب بحذر واستغراب مما يحدث وتلك الرهبة التي تكتسي بها عند حديثها عن الأولياء واهل الله ويمتلئ قلبي بتساؤلات كثيرة لا أجد لها إجابة واضحة حول كثير من المعتقدات التي يؤمن بها اهل الريف، الأولياء الصالحين وكراماتهم، الجن، العفاريت، الموتى، القبور، الأضرحة وناس الله الذين يهيمون على وجوههم ليل نهار يرفعون الفاتحة لكل من يطلبها منهم…
الخرافة تجد طريقها سريعاً للبسطاء من اهل الريف فينسجون الروايات والقصص والأساطير، وأظل أتساءل دوماً من اين تأتي هذه الحكايات الغريبة هل هو الخوف من المستقبل والتشبث بالماضي حتى ولو كان مؤلماً ومظلماً، للخرافة تأثير قوي ولن يستطيع احد ان يقتلع تلك القناعة الراسخة بداخل اهل الريف وبعض البسطاء حول الأضرحة والكرامات، حينما انتهرتني جدتي تراجعت للوراء ولذت بعنقريب الحبل الكبير معتذرة عما ظنته تطاول غير مبرر، لكني عدت وسالتها خلينا من الميتين الحيين وين؟؟.. الرسالة
حكاوي عن الشخوص والأمكنة
aminafadol@gmail.com