محاولة تبني الفكرة
لم تكن فكرة قيام المهرجان وليدة الصدفة بل كانت آمال وأشواق وتطلعات المرحوم عوض فضيل أحد أبناء البركل ورمز من رموزها المعروفين لكن نفر من بعده تبنوا أفكاره بل حاول البعض أن ينسبها إليه دون وازع من الضمير أو الأخلاق، علمت بذلك وأن اتجول داخل باحة المهرجان بالصدفة من رجلين تحدث إلى احدهما والدموع تملأ مقلتيه قال لي إن صاحب الفكرة لم يتم ذكره في فعاليات المهرجان ولم تُعرض صورته ولم تعلق سيرته على جدران الخيم فالرجل يرقد جسده الطاهر في مقبرة الجبل مكان حلمه الذي ظل يراوده طيلة حياته لكن البعض أراد لهذه المناسبة أن تمر دون أن يرد ذكره خلال الفعاليات، وأضاف أن مبلغ علمهم أن الرجل فتح داره لبعض من هم الآن أعضاء في اللجنة وطرح عليهم الفكرة وعقدت اجتماعات كثيرة في منزله العامرة حتى وافته المنية كانت أحلامه أن يشهد الجبل أكبر حدث في تاريخ السودان الحديث بقيام المهرجان ولكن.. لم يقوى الرجل أن يكمل حديثه من شدة حزنه تركته يغالب دموعه وذهبت أبحث عن آخرين وفي طريقي وجدت أحد أعضاء اللجنة ومن أبناء منطقة البركلـ فضل عدم ذكر اسمهـ أقر لي بأن الفكرة من بنات أفكار المرحوم عوض فضيل وآخرين وأكد أن الاجتماعات كانت تنعقد داخل منزله إلى آخر أيامه لتحقيق الحُلم، سألته لكني لم أر أية إشارة للرجل؟ سكت برهة ثم قال لي أن الفكرة لعوض وآخرين ضمن أعضاء اللجنة العليا ولم يكن من بين فعالياتنا تناول أصحاب الفكرة أو الثناء عليهم.
احتكار عضوية اللجنة
سؤال راودني ولعله راود كثيرين غيري عن ماهي المعايير التي تمت بها اختيار أعضاء اللجنة العليا التي دار حولها جدل كثيف، فكثيرون يروا أن اللجنة لم تشمل عضويتها كافة الاثنيات الموجودة في الولاية الشمالية لاعتبار أن المهرجان تشرف عليه الولاية ممثلة في وزارة الثقافة والإعلام والسياحة بل معظم أعضاء اللجنة من أبناء منطقة واحدة، والأمر الثاني أن اللجنة لم تراعى التخصصية في تشكيلها إذ غاب عن عضويتها أهل التخصص لا سيما في مجال السياحة والتراث بل ضمت كثير من الناشطين في العمل العام بمحلية مروي. ورغم أن الفكرة لم تكن في الأساس حكومية بل كانت فكرة أشخاص بيد أن هذا لا يعطي الحق لأصحاب الفكرة أن يحتكروا عضوية اللجنة العليا للمهرجان طالما ارتضوا اشراف حكومة الولاية ورعاية رئاسة الجمهورية للمهرجان، تلك الاحتكارية فتحت نيران جهنم على أعضاء اللجنة من اثنيات أخرى تشكل مجتمع الولاية الشمالية حيث وجهت انتقادات عنيفة إلى منظمي المهرجان على صفحات المواقع الاجتماعية (فيس بك وواتساب) من قبل شباب تلك المناطق التي هُمشت عند تكوين اللجنة العليا، فالشباب من شمال الولاية الذي يمثل النوبيين ومن جنوب الولاية التي تقطنه القبائل العربية إذن فإن مجموعة بعينها لا تنتمي إلى اثنية واحدة هي التي احتكرت عضوية اللجنة.
الميزانية المجهولة
وكانت اللجنة العليا وعلى لسان رئيسها الفريق حطبة شكت مر الشكوى من شح الميزانية، بالرغم من أن رئيس الجمهورية كان قد وجه وزارة المالية بأن تتكفل بكافة تكاليف قيام المهرجان لكن اللجنة وخلال المؤتمر الصحفي الذي اقامته قبيل انطلاق فعاليات المهرجان.
بأيام بمنبر سونا قالت إن وزارة المالية لم تلتزم بتوجيهات الرئاسة واوفت بجزء يسير من توجيهات رئيس الجمهورية، وفتحت اللجنة الباب أمام الشركات والأفراد للدعم المادي واللوجستي للمهرجان ونما إلى علمي أن ولاية الخرطوم تبرعت بإنارة الموقع فيما قامت مجموعة دال بتجهيز مكان الفعاليات والمسرح المتحرك بالإضافة إلى تكفلها بخدمات الضيافة مجاناً طيلة أيام الاحتفال هذا علاوة على رعاية شركة سوداني وأفراد آخرين وشخصيات نافذة ساهمت مساهمة مقدرة في دعم ميزانية المهرجان، لكن اللجنة لم تكشف حتى الآن عن المبالغ الواردة ولم تعلن عن المنصرفات وما تبقى عبر مؤتمر صحفي ولم تنوه لذلك فهل ستقدم اللجنة حساباتها الختامية بكل شفافيه وتعلنها للرأي العام باعتباره صاحب هذه الأموال الأول؟ ومتى ستقوم بذلك الإجراء؟.
فوضى عارمة
قبل اليوم الأول وصلت إلى باحة الجبل برفقة عدد من الزملاء ولم يكن في حسبان الزملاء أن يتم استقبالهم بتلك الطريقة التي لا تشبه بأي حال من الأحوال إنسان الشمال الذين خبروه وكتبوا عنه الزملاء خلال فترة إقامتهم بعد أن طافوا القرى والبلدان المجاورة لجبل البركل، لكن ما حدث في ليلة الوصول لم يكن في مخيلة أي من الزملاء حيث قامت اللجنة وفي تمام الـــ12ساعة مساء تبحث عن مكان إقامة للصحفيين وبتصرف شخصي من المسؤول عن الوفد الإعلامي وبعلاقاته الخاصة طلب من عدد من أصدقائه في الحي المجاور إلى فتح نافذات منازلهم لاستقبال الضيوف القادمين من الخرطوم لتغطية فعاليات المهرجان، في سابقة تعد الأولى من نوعها لكنها فرضت العديد من الأسئلة على شاكلة، هل كان الوفد الإعلامي خارج ميزانية اللجنة؟ لا سيما فيما يخص موضوع السكن؟ فإن كانت الاجابة بلا ـ وهذا هو الطبيعي والمفترضـ أين ذهبت أموال سكن الصحفيين والإعلامييين؟ ربما أن اللجنة أعدت تلك البيوت لاستقبال الزملاء أو ربما تفاجأ المسؤولين عن الوفد بهذا التصرف الغريب.
ملابسات يوم الافتتاح
في وقت مبكر من ذلك اليوم الأول لانطلاق فعاليات المهرجان احتشدت جماهير غفيرة من قرى ومدن الولاية الشمالية وكل الأنظار تتجه صوب مطار مروي الدولي تترغب هبوط الطائرة الرئاسية، ونجحت اللجنة في حشد جماهيري كبير لاستقبال الرئيس لكنها فشلت في توفير الخدمات الضرورية لذلك الحشد فمياه الشرب لم تكن بالقدر الكافي فيما شهد كثير ممن احتشدوا تحت الجبل يشربون مباشرة من مياه (المواسير) القليلة الموجودة في ساحة الاحتفال ثم شاهدت بعضاً من شباب الهلال الأحمر يسعفون عدد كبير من الحالات علمنا في ما بعد من مسؤول الهلال الأحمر بالمحلية أن الحالات عبارة عن الاغماء و(الدوخة) والعطش. وعند وصول الوفد الرئاسي علت المنصة بالهتافات المعهودة وبدأت الفقرات المعدة سلفاً ثم التجاهل الذي كنا قد أشرنا إليه في تقرير عن ما حدث في ذلك اليوم لنائب الدائرة الفريق أول صلاح قوش وآخرين. انتهى اليوم بخيره وشره وثغراته الكثيرة واللجنة تبرر لاخفاقاتها بأن هذه التجربة الأولى لها وكأن لم تقم مهرجانات مماثلة في هذه البلاد غير مهرجان البركل فالمبرر حسب ما وصفه خبراء في مثل تلك المجالات أنه أوهن من بيت العنكبوت.
تفاصيل لم تنشر بعد
كانت اللجنة قد أعلنت في مؤتمرها الصحفى أنها أرسلت الدعوات إلى عشرات الدول والشركات العالمية ولاحظت أن الحضور الاقليمي والدولي دون الطموح وما رصدته شخصياً وفوداً لدول عربية وافريقية ولم أشاهد أية وفود من دول غربية داخل خيام المهرجان أو خارجه، فهل فشلت اللجنة في اقناع تلك الدول وتقديم ما يرضي طموحها ويشجعها إلى المشاركة في الفعاليات؟ لا سيما وأن المهرجان قام لأجل التسويق للسياحة بالولاية التي تزخر بإمكانيات عالية تؤهلها لمنافسة دول بأكملها تعتمد على هذا المجال لدعم اقتصادها.
قضية أخرى لم تتم الإشارة إليها من أية جهة إعلامية مع أهميتها اكتشفتها من خلال تجوالي على الخيام المنصوبة للشركات وأصحاب المأكولات والمشروبات وقليل من التراث وهي أن محلية مروي قامت باستئجار بعض المحال إلى بعض بائعات المأكولات والمشروبات وأماكن العرض الخاصة حيث وصل متوسط سعر الأجرة ما بين خمسين إلى مائة جنيه فبعض الذين استفسرتهم عن هذه الأجرة أكدوا لي أن المحلية عرضت هذه المحال للأجرة وقاموا بالاستئجار منها بهذه الأسعار، والسؤال ما علاقة محلية مروي بهذه الفعالية وهل تمتلك سلطة أجرة محال داخل حرم الجبل الذي يشهد فاعلية قومية بل وعالمية، هذا بالإضافة إلى أن المحال عكست صورة سيئة وكئبة لمنظر المهرجان مما أدى إلى افساد كل الجمال الموجود. مع العلم أن كل الخيام المنصوبة والمبان المشيدة هي من عمل اللجنة العليا وليس من صنع عبقرية المحلية.
للكبار فقط
لم تشأ اللجنة العليا للمهرجان أن يستمتع الأطفال بفعالياته إذ غاب عنها أي نشاط للأطفال الذين تواجدوا طيلة أيام المهرجان بكثافة لكنهم يتجولون مع الكبار فقط دون أن يروا ما يدفعهم إلى مشاهدته وفي ذلك قال لي أحد المتخصصين في مجال مسرح العرائيس الأستاذ عبدالعظيم منوفلي إن المهرجان صاحبه اهمال شديد لبرامج الأطفال وكأنه صنع خصيصاً للكبار فقط وأبدى استياءه للاهمال الذي تعرض له مسرح العرائيس والطفل واعتبر الأمر ظلماً كبيراً للأطفال بحرمانهم من المشاركة في هذه الفعاليات التي يتمتع بها جمهور الكبار أكثر من الصغار.
سقوط حميد عمداً وآخرون
أن يسقط شاعر الوطن حميد وآخرون أمثال محمد سعيد دفع الله وعبدالله محمد خير وآخرون من حسابات اللجنة المنظمة للمهرجان ولو من باب ذكر أسمائهم فقط أثناء الفعاليات فهذا من باب الفعل المتعمد إذ لا يمكن أن يسقط أمثال هؤلاء سهواً بأي حال من الأحوال ولا مجال لأي مبرر من مهرجان ادعى منظموه الترويج لثقافة المنطقة فأين هي الثقافة التي روج لها المهرجان وحميد غياب عن دفاترها ولم يوقع عليها وهو الذي روج للهجة المحلية وجعلها قومية لأنها أصبحت تجري على لسان الكثيرين من أبنا الشعب السوداني بما فيهم أبناء دولة جنوب السودان وفي دارفور وكردفان والنيل الأزرق وفي شرق البلاد حميد الذي قال عنه شاعر مصر عبدالرحمن الأبنودي أن الرجل سبق زمانه لم تقل في حقه اللجنة كلمة شكر وإعزاز لرجل حمل الهم مع آخرين فأحياء تراث الدليب عقب عودته من منفاه الاختياري، ثقافة غاب عنها الأستاذ عمر الحسين الذي جمع ديوان حاج الماحي وغاب عنها الراحل محجوب العاقب الذي كتب الأنساب وأطر لها في كل المنطقة بكافة مكوناتها وكثيرون أسقطتهم اللجنة عمداً أو سهواً ليس مهم بقدر ما أنهم رموز ثقافية وإعلام لا يمكن تجاهلها أو اقصاء سيرتها.
ليلة الختام
رغم السقوط الكبير للجنة العليا بما ذكرنا انفاً فإن حميد فرض نفسه وردت إليه روحه ليغني بكلماته الفنان المبدع محمد النصري قصيدته الجميلة العظيمة (سوقني معاك ياحمام) فأرسل حميد حمامه ليحلق بروحه فوق رؤوس الآلاف الذين احتشدوا ليغنوا مع النصري.
سوقني معاك ياحمام “”” سوقني معاك للسلام
سوقني محل ما الحبيبة غربية تراعي الغرام
غريبة الأشواق قريبة
يسوقها منام في منام
إلى أن يقول
يا حكيم الطير يا مهبر “”” شركة القتلة اللئام
لامتين بإسم الحق تكبر “”” وبالرحمة تصلي إمام
أخير كراكة بتفتح حفير “” وتراقد الركام
أم الدبابة البتكشح “””” سعير الموت الزئام
لكن الغريب في الأمر أن النصري وقبل أن يردد هذه الأغنية كان قد قطع أغنية “”” السلام ملح المشاعر ومافي حب إلا انبدابو “” فهل قصد أن يقطعها أم كانت مهد صدفة؟
تحقيق: علي الدالي- التيار