حول دعوة إسقاط القبيلة من الأوراق الثبوتية

[JUSTIFY]يبدو أن البرلمان السوداني الموقر، أخيراً فاق من سبات عميق أشبه بسبات أهل الكهف في الزمان الأول. ودعا ولو على استحياء بنزع القبيلة من الأوراق الثبوتية وهي خطوة وإن جاءت متأخرة خيرٌ مما لا تأتي أبداً.
وهي أشبه بقول الأعمى «صدقة للَّه يا محسنين» قد ترفض أو تقبل ولكن للأسف الشديد جاءت بعد أن حدث الزلزال القبلي في طول البلاد وعرضها، وضرب مكونات النسيج الاجتماعي في الصميم، والتي هي أصلاً مكونات هشة أوهن من بيت العنكبوت.
وانقطعت للأبد شعرة معاوية بين هذا النسيج الهش في عهد «دولة الفكرة» الإنقاذ الوطني والتي اجتهدت نُخب ما بعد «1956م» في المحافظة عليها رغم رقتها.

وإذا كان سكوت البرلمان على مدار ربع القرن، وهو لا يعلم جريمة إضافة اسم القبيلة إلى الأوراق الثبوتية فتلك مصيبة، إذا كان يعلم تلك الجريمة وسكت كل تلك السنوات فالمصيبة أعظم وأدهى وأمر.
فموسف جداً أن تكون دولة الإنقاذ الوطني المؤسسة على الفكرة الإسلامية، التي حولت القبيلة إلى أمة، والشتات إلى جماعة متحدة، ووصف الإسلام الدعوة إلى توظيف القبلية إلى غير نصرة الفكرة، بأنها دعوة جاهلية، وأنها نتنة وفتنة، فمؤسف تراث مشرق مثل هذا من ينتمي إليه يكون أول من يخون مبادئه، مرتمياً في أحضان القبيلة، ويصرفها إلى وجهتها المذمومة كما فعلت دولة الحركة الإسلامية في السودان.

والقبيلة أصلاً كوعاء بشري يضم في أحشائه مجموعة من الفروع والأفخاذ والبيوتات والعشائر ليست مذمومة في حد ذاتها، بل قد يكون وجودها لازماً، لتنظيم وتقنين وتوظيف طاقات من ينتمي إليها في سبيل توجيهها الوجهة السليمة، ولكن المذموم اتخاذها مطية لتحقيق المصالح الخاصة به، وإقصاء الآخرين، بل وضربهم، وتصفية الحسابات بها، الأمر الذي يفرز النتواءات الشائهة بين مختلف الجماعات، وتبرز التشوهات بين الناس، ويفزع كل فرد إلى قبيلته ليحتمي بها من غول القبائل الأخرى ويضرب بها ويحقق بها مصالحه، وهنا يدخل المجتمع في نفق الاستقطاب الحاد والتأرجح بين مختلف المكونات، وفي هذه الحالة تنعدم شروط ديمومة المجتمع، ويبقى قاب قوسين أو أدنى من الانقراض، ولا يتعافى بعد ذلك إلا بمعجزة.

ومما يحز في النفس، وتنفطر له الكبد، إن نُخبة ما بعد الاستقلال «1956م»، وهي علمانية من أخمص قدميها إلى جدائل شعرها استثناءً أواخر العهد المايوي، لم تسشرِ في فترات حكمها أمراض القبيلة، وطاعونها الفتاك، بل في انتخابات الديمقراطية الثالثة فاز عشرات النواب البرلمانيين، في بؤر قبلية، لا ينتمون إليها إثنياً، بل أنزلتهم أحزابهم التي ينتمون إليها في دوائر نفوذها، فأعطوا مرشح الحزب دون علمهم لأي قبيلة ينتمي ما دام الحزب هو الذي أتى به وهذا الوعي المبكر في عهود الطائفية، التي قال: فيها نظام الحركة الإسلامية ما لم يقله مالك في الخمر، والآن لا يستطيع سيادة الرئيس البشير نفسه بكل تاريخه الناصع، وكسبه في الحركة الإسلامية ومجاهداته، أن يفوز نائباً برلمانياً مثلاً إذا نزل في دائرة الدندر ضد د. منصور يوسف العجب، ابن المنطقة وابن قبيلة رفاعة فالرفاعيون مثلاً يعطون ابن قبيلتهم مهما كان حجم ووزن الذي نزل معه ورفاعة ليس شذوذاً في ذلك لأن داء القبيلة استشرى كالنار في الهشيم.

فالحركة الإسلامية بتمرغها في تراب القبيلة وارتمائها في أحضان، نظار، شراتي، وعمد القبائل، ظنت أنها بذلك تضرب ثلاث عصافير بحجر واحد.
فتضرب الطائفية في معاقل وجودها، وتتحصن ضد هبات الشعب بكسبها لرؤوسه الكبار وتحويل مؤسسات المجتمع الأهلي إلى مواعين نظامية تعمل بوصفها امتداداً لأجهزة الدولة المختلفة ولكن هذا مثل لعب الساحر بسحره الذي سرعان ما ينقلب عليه/ وها هو الحصاد المر لتلك السياسات العرجاء، فالآن كل قبيلة تدججت بأحدث أنواع الأسلحة وأخذ تبتز جهاز الدولة بالمال أو المناصب وأثبتت التجارب على مدار التواريخ والأزمنة أن هذا الاتجاه خطأ قاتلاً ولا تحمد عقباه أبداً.

ويؤكد بعض المراقبين أن الحركة الإسلامية السودانية، ليس بدعاً في حركات الإسلام السياسي منذ فجر الإسلام الباكر، فحكاية رفع قميص عثمان رضي اللَّه عنه، والقتال تحته معروفة والتاريخ لا يكذب ولا يتجمل، فالطبيعة الدينية ذات العاطفة الجياشة التي تتحرك بها الجماعات التي تحملها، لا تفكر في مستقبل العباد والبلاد بقدر ما يكون الهدف النهائي لها منصباً على تمكين نفسها من السلطة والثروة والنفوذ والاستحواذ على كل شيء، وإن خالف ذلك تعاليم الإسلام الذي تتحرك تحت راياته، ورحم اللَّه سعيد بن العاص حينما قال: دون مواربة هذا السواد إشارة إلى العراق سواد قريش وكانت العراق حينئذ تحت سلطان علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، ويعني بقريش هنا بني أمية، ولكن قال: قريش تلطيفاً للأمر.

فعلى الإنقاذ الوطني، والتي هي الآن تتوثب لحكم السودان دورة قادمة ـ واللهم لا حسد ـ أن تراجع مشروعها مراجعة شاملة، وتنقد فكرتها نقداً بنَّاءً دون سلخ الجلد وحتى لو كانت هذه المراجعة وفق مقولة الثورة تراجع ولا تتراجع، فتسقط كل معيب به، ومن ذلك إسقاط اسم القبيلة من الأوراق الثبوتية، وتبقى على الصالح منه، حتى لا يبكي الجميع في معسكرات اللجوء في إثيوبيا، وإريتريا، وتشاد، ومصر، ويقولون كان لنا وطن اسمه السودان «فال اللَّه ولا فالي قلتها لنفسي».

يوسف عبد اللَّه محمد الفكي
صحيفة الإنتباهة
ت.أ

[/JUSTIFY]
Exit mobile version