لسنا في صدد تمحيص المقولة ومعايرتها، لكن وقائع الحال تثبت أن أديس أبابا تضخ الحياة في شرايين الخرطوم السياسية (عديد المفاوضات والاتفاقات – آخرها “نداء السودان”)، والاقتصادية (سد النهضة، التبادل التجاري)، ذلك دون نسيان أن أكبر مغذٍّ لواهب الحياة (نهر النيل) هو النيل الأزرق المتكوّن في الهضبة الأثيوبية.
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَشْرِق..
سنوات هبوط وصعود العلاقات مع السودان
بدا رئيس الوزراء الأثيوبي الراحل مليس زيناوي، مذهولاً ومصدوماً حينما تلقى التقارير والمعلومات الخاصة بمحاولة اغتيال ضيفه الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك، والتي جرت على أرضه في يونيو 1995م إبان القمة الأفريقية التي استضافتها أديس أبابا.
غضبة الرجل لم تكن من فراغ ولكنه نابع من تلقيه طعنة نجلاء في ظهره حينما تورط مسؤولون نافذون في الحكومة السودانية وأجهزتها الأمنية في تلك العملية بجميع مراحلها.
يبدو يومها أن زيناوي استرجع العديد من المشاهد والصور التي مرت على مخيلته، مسترجعاً ومقارناً المواقف الكبيرة التي قدمتها بلاده لجارها الغربي الذي كان يعاني شظف الحصار والتضييق عليه إقليمياً ودولياً بسبب توجهاته الخارجية التي كان ينظر لها باعتبارها مصدرة وداعمة للإرهاب، ومضي الأمر لأكثر من ذلك بغضه الطرف عن بعض الممارسات التي يقوم بها جاره الغربي بدعمه لمجموعات ذات خلفيات إسلامية داخل بلاده، فصمت وصمد أمام ضغوط كبيرة مورست عليه للدخول في زمرة (الضاغطين) على الخرطوم التي احتفظ لها بأفضال كثيرة في دعمها للمقاومة إبان سنوات حرب التحرير التي خاضوها ضد نظام الرئيس السابق منقستو هيلا مريام. ومع يقينه بوجود مصلحة كبرى للخرطوم في إسقاط منقستو الذي دعم وساند بشكل علني الحركة الشعبية وجيشها الشعبي سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، واستضافة أراضيها مفاوضاتها مع ممثلي الأحزاب السياسية في “كوكدام” “أمبو” واتفاق الحركة الشعبية مع الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي اشتهر باسم (اتفاق الميرغني/ قرنق) في منهج مخالف كلياً لتجربة إمبراطورها الأخير هيلاسلاسي الذي رعى اتفاق السلام بين الحكومة وحركة الأنانيا الذي عرف تاريخياً باسم (اتفاقية أديس أبابا).
تبقى الحكمة الأبرز المنسوبة للأمبراطور الأثيوبي هي التي أسر بها لرئيس الوزراء السوداني عبد الله بك خليل حينما زاره الثاني قبل فترة قصيرة من تسليمه السلطة للجيش في 17 نوفمبر 1958م وأسر له ضيفه بنيته إدخال الجيش في مضمار السياسية والحكم فقدم النصح بتجنب هذا الخيار الذي ستمتد آثاره وتتجاوز السودان لتعم كل المنطقة، وصدقت نبوءة الإمبرطور وكانت نهايته هو شخصياً بانقلاب ماركسي تولى زمامه منقستو هيلامريام في العام 1974م، وقضى نحبه مقتولاً ولم يعثر على جثته إلا في العام 1992م مدفوناً تحت أحد مراحيض وحمامات القصر الملكي.
العودة للخرطوم
صحيح أن ردة الفعل الأثيوبية تجاه تورط أطراف سودانية سياسية وأمنية في مخطط اغتيال مبارك كان عالياً، وقاد الخرطوم إلى ساحة مجلس الأمن الدولي وإصداره قرارات في مواجهتها، وتطور الأمر بمشاركة أديس أبابا ضمن دول الطوق التي قدمت مساعدات سياسية وعسكرية لقوات المعارضة والتي انطلقت رسمياً في يناير 1997م، ورغم ذلك ظلت جسورها ممتدة صوب محسوبين على الحكومة السودانية أبرزهم السفير السوداني بأديس أبابا اللواء عثمان السيد ومندوب السودان وقتها بالأمم المتحدة اللواء الفريق طيار لاحقاً- الفاتح عروة والذي قاد في أبريل 1997م مقاتلة أثيوبية فر بها قائدها للسودان وأعادها لأديس أبابا ورغم ذلك فإن العلاقات بين البلدين ظلت متوترة ولم تتجاوز الأطر الشخصية.
ويعتبر التحول الأكبر في العلاقات بين البلدين هو اندلاع الحرب الأثيوبية الإرترية في عام 1998م ووقتها كان ظفر أي من الطرفين برضا الخرطوم أمراً ذا أهمية استراتيجية وعسكرية. ونتيجة لعوامل عديدة اختارت الخرطوم الانحياز لأديس أبابا والتي كانت صادقة في وعدها والتزامها بوقف كافة أنشطة المعارضة السياسية والعسكرية على أراضيها الأمر الذي مكّن القوات الحكومية من استعادة مساحات واسعة من الأراضي التي وقعت تحت سيطرة قوات المعارضة بالجبهتين الشمالية والجنوبية بالنيل الأزرق اللتين كانتا أكبر القطاعات العسكرية لقوات المعارضة المسلحة بالجبهة الشرقية، وفي مقابل ذلك فإن السودان فتح موانئه على البحر الأحمر لأثيوبيا بغية تعويض منعها استخدام الموانئ الإرترية على البحر الأحمر.
تبادل المنافع
استثمر السودان تحسن علاقاته مع اثيوبيا في أعقاب الحربين اللتين خاضتهما ضد إرتريا في عامي 1998 و2000م بحل العديد من المشاكل العالقة بينهما على رأسها ترسيم الحدود واستفادت الخرطوم من الدعم السياسي والدبلوماسي الكبير الذي ظل زيناوي يقدمه شخصياً في العديد من الملفات الشائكة على المستويين الإقليمي والدولي من خلال القضايا المرتبطة بتنفيذ اتفاق السلام الشامل، وما تبعها من تقرير المصير وإعلان دولة جنوب السودان، وحل معضلة نشر القوات الأفريقية والعملية الهجين لاحقاً بدارفور والمواجهة ضد قرار المحكمة الجنائية الدولية.
وبالمقابل فإن الخرطوم لا تزال تساند الموقف الأثيوبي في ما يتصل بحقها في تشييد سد النهضة والذي جر عليها غضبة مصر، وهو موقف قلل الضغوط بشكل كبير على جارها الشرقي الذي كان بحاجة ملحة لهذا الموقف المساند.
ولم يشهد موقف أثيوبيا تجاه السودان أي تراجع بعد تغييب الموت لزيناوي لكن تلاحظ ضعف تأثيره بشكل عام عند مقارنته بحقبة زيناوي لعدة معطيات أهمها بروز تحديات داخلية جسيمة لخلفه هيلي ماريام ديسالين والحاجة لإعادة ترتيب الأوضاع على مستوى الحزب والدولة مع إعطاء الأولوية بشكل أكبر للصراع داخل دولة جنوب السودان الذي بات الأكثر مأساوية بالمنطقة سيما أن تداعياته الاقتصادية والأمنية والإنسانية أكبر حجماً على أديس أبابا، وما يجعلها تحرص رغماً عن التحديات الداخلية على الإسهام والإسراع في إطفاء الحريق المشتعل بين فرقاء جنوب السودان ويفسر ضعف الإسهام الأثيوبي بمسار المفاوضات السودانية بمساراتها المختلفة.
تقرير: ماهر أبوجوخ- الصيحة