من السهل جداً فهم دعوة التظاهرات هذه في إطار الحرب النفسية.. لأن الوضع في مصر تحرك في اتجاه لم يعد يقبل بعودة الأخوان المسلمين إلى واجهة العمل السياسي على الأقل في المرحلة الحالية.. وكان ممكناً للإعلام المصري تجاهل هذه التظاهرات تماماً.. والتركيز على التبشير بدولة الاستقرار السياسي والاقتصادي التي بدأت تظهر خلال الفترة القليلة منذ أن تولى المشير السيسي الحكم.. لكن بدلاً من ذلك.. بات الإعلام المصري كله في خضم معركة افتراضية.. وأشبع الشارع المصري بالمخاوف والترهيب حتى قبل أن يطل الموعد المضروب للتظاهرات..
مثل هذا الإعلام ينطبق عليه المثل الشهير (عدو عاقل خير من صديق جاهل..) فهو يهدم أكثر ممّا يبني.. وبالتحديد يهدم جهود حكومة السيسي التي تحاول الخروج من العزلة الدولية واستعادة موقع مصر الرائد في الإقليم والعالم.
في الماضي كان الإعلام المصري الأنموذج الذي يحاول العالم العربي بل وحتى الأفريقي الاقتداء به… وكانت مصر منارة إعلامية تجذب إليها نجوم العرب في كل المجالات.. والصحافة المصرية يقتات منها العقل العربي، وتحتكر أرقام التوزيع الأعلى في غالبية الدول العربية.. لكن الآن يبدو أن الإعلام المصري تاه في خضم الأجندات السياسية المتناقضة.. ولم يعد يتحدث بروح المهنة أو الحرفية التي تعلمها منه في الماضي بقية العرب… وسائط الإعلام المصرية صارت مجرد أبواق رنانة ضاجة في مولد كبير (مولد وصاحبو غايب)- على رأي المثل الشعبي..
والمتضرر الأول هو شعب مصر.. الذي تطلع إلى دولة مستقرة قوية مفتاحية في القارة والعالم العربي.. فإذا به يواجه بإعلام يصور له حرباً في الخيال.. أوهام تطرد الاستثمار، وترفع حواجز الخوف من المستقبل، وتكبت أي تقدم نحو النهضة..
في مصر الآن مشروعات عملاقة.. على رأسها قناة السويس الجديدة.. مشروع يضاعف عدة مرات الموارد التي تدرها قناة السويس ويزيد من قوة مصر وثقلها الدولي بزيادة التجارة العابرة والمصالح الدولية (بما فيها العسكرية) التي تعبر قناة السويس بين ضفتي العالم الشرقي والغربي..
بدلاً من لفت الأنظار إلى مثل هذه المشروعات.. وامتصاص نزوات التوتر والخوف في الشارع المصري.. طفق الإعلام المصري يقرع طبول حرب لم تعد موجودة إلا في خيال من يربطون مصالحهم الخاصة باستمرارها.
مصر الآن مختطفة بإعلام غير راشد.. تغيب عنه بصيرة النظرة الإستراتيجية للمستقبل.. ويغرق في يوميات التكتيك السياسي..
د. عثمان الميرغني- التيار