قال لي الضابط السعودي وهو يطالع بيانات الجواز (تشتغلين هنا؟)..قلت له (لا)..نظر مرة أخرى الى الجواز وقال لي (انت بدرجة استاذ جامعي وتجلسين بالبيت؟)..قلت له (انا اعمل بالسودان )..ضحك قائلا ( ما كنت فاكر ان لسه بالسودان موجودين اساتذة جامعة ..كلهم حولوا معانا هنا ..كل يوم تجي طيارة تجيب عشرة.. عشرين استاذ وتعاود)..
لم اعلق بشئ ..ولم اقل له اني اردد مع وردي كل (لو بايدي كنت طوعت المحال )..كم هو مؤلم ان ترى مقامات تهتز وعزيز قوم يذل. قبل فترة قال وزير المالية السابق الذي نصحنا بالعودة للكسرة (وكأننا فارقناها لحظة) ..قال مفاخرا الاخرين باننا نصدر (النبق والدكاترة) وقد كنت في ذلك الوقت لاازال ..امارس الاندهاش واتعاطى الحيرة ..فقلت لنفسي (كيف يعني نصدر الدكاترة؟؟ وهل يمكن ان ياتي يوم يصبح فيه الانسان السوداني خاضعا للعرض والطلب؟)..ما اسرع ما صدقته الأيام !!!..
أصبح الانسان هو اعلى صادرات السودان ..نصدر مختلف الانواع والتخصصات وكل الفئات العمرية. صار الحديث عندنا في اي اجتماع بحثي هو ان الوكالة (الفلانية) لديها عقود عمل للجامعة (الفلتكانية) ..ولم يصبح النقاش عن جدوى الخروج ..هذا شئ مفروغ منه ..بل هل تذهب عبر وكالة فلان لانه يطلب سعرا أقل لكي ياتي لك بالعقد ؟ ام تلك الوكالة التي تأخذ سعرا أعلى لكي تكمل لك جميع الاجراءات بسهولة؟؟ …
سوق نخاسة مفتوحا على مصراعيه …والوكالات ترعي بلا قيد أو شرط ..وتمارس كل اصناف العنجهية والعبودية ولا تخشى احدا فكل شئ يتم برعاية وزارة العمل والتي يهمها فقط ان تنال حظها من الجبايات ولكن امرا ككرامة الانسان السوداني ؟ ..هذا شئ هامشي بالنسبة لها !!!…
الوكالات تساوم الاستاذ الجامعي وتقلل من قيمة شهاداته ونتاج خبرته في سبيل حفنة من الدراهم …و النتيجة أن السودانيين أصبحوا من أقل الشعوب اجرا بعد ان كانوا من المتصدرين ..فقط لانه ليس هناك من يدافع عنهم ويحمي ظهورهم. قبل فترة قصيرة تداولت الوسائط الاجتماعية صورة ورقة بها اسماء عشرين استاذا من درجة البروفسور بكلية البيطرة جامعة الخرطوم ..كانوا في طريقهم الى الجماهيرية الليبية للعمل!!! لشد ما ألمني ذلك الخبر ؟؟ فكثير منهم درسوني بالكلية و اعلم تمام العلم ..ان الذي يخرج أؤلئك.. هو (الشديد القوي) الا وهو البحث عن لقمة العيش والحياة بطريقة كريمة ..
هؤلاء البروفسورات قد تجاوز بعضهم الستين ولو كانوا في بلاد أخرى لاقيمت لهم التماثيل واطلقت أسماءهم على الشوارع…خروج هؤلاء الاساتذة الاجلاء في هذه السن ..يدل على انهم قنعوا من خيرا فيها ولا عزاء لطلاب العلم . اؤلئك الذين اندهشوا في تدافع الاف الشباب حول السفارة القطرية متنافسين على اربعة فرص في الجيش القطري …أقول لهم لا ترهقوا انفسكم بالدهشة ..فهي رفاهية لا تناسبنا وترف لا ندعيه …
الحسرة هي ما يليق بنا في هذه المواقف …( ها ايش قلتي؟ ما رديت علي ..كم تاخدين راتب هناك في السودان ؟؟) ..اعود الى الواقع ..مازلت في صف الجوازات ..ولا زال هذا الضابط يثرثر …اخذت جوازي منه وقلت له ( اتقاضي ..ما يساوي نصف كيلو من النبق) ..تركته فاغرا فاه متعجبا من قولي وتحركت …ووووو (النبق ..النبق ..النبق)…وووصباحكم خير
د. ناهد قرناص