وهنا بالخرطوم تبدلت أحوال العاصمة فقد أفلح ولاة أمرها في أن يقودوها بجدارة الى قمة التراجعات والفوضى الضاربة باطنابها، وفشلوا كذلك في ان يعيدوا لها بسمتها وافراحها وجمالياتها المسروقة منذ حقبة الستينيات.. حاولت كثيراً حكومة «الخضر» غسل أدران الخرطوم وازالة اكوام القمامات والنفايات المتناثرة على طرقاتها واحيائها البعيدة والقريبة فتنبعث منها الروائح الكريهة وتبدل المناخات فتتسسم العاصمة بمناخات اخرى مصنوعة، فالطبيعة هنا منتهكة وملوثة وعلى مرمى حجر من قلب العاصمة.. تلك هي ابرز الملامح في ولاية شمطاء كما العجوز في أرذل العمر شاحبة عابثة.. متضخمة ومتكومة حافية الاقدام تنام في اثمالها بلا عطر وبلا ابتسام وبلا فرح، فكل مناسباتها الفرائحية ذهبت مع ضائقة العيش ووطأة الفقر ورهق الاقتصاد اكوام من النفايات والاوساخ تسد الطرق وتحتل مساحات المواقف والمحطات، وتحيل الباحات الى مستودعات للتكاثر والعيش الأمن لجيوش من البعوض والذباب. هذه هي الخرطوم التي توشحت باكياس النفايات المتناثرة وطوقتها الاحزان والأزمات.
وأسوأ ما في كل هذه المناظر الباعثة للاسى ان المطاعم والبقالات والكافتريات تعمل بلا ضابط و«السيدة» المحلية لا تبالي ولا تحرك ساكناً يكتب في سجلها جهد المحاولة وثوابها.. ولو أن السيد «نمر» معتمد الخرطوم اصطحب معه طاقمه المختص وطاف بهم «ليلاً» ولو لمرة واحدة في السنة بين طرقات العاصمة وازقتها، حينها فقط يدرك السيد نمر وجماعته ان اول قرار يتخذه بعد العودة الى مكتبه هو ان يحرر استقالته هو وجماعته ويدفع بها على طاولة الخضر.. لكنهم لا يخرجون ولا يفعلون بل لن تحدثهم أنفسهم بشيء من هذا.. فالمحلية لا تخرج الا للجباية او لتوسيع مواعينها الإيرادية.
«حركة» بمسارات عديدة
ما الذي تريده حركة الاصلاح الان من حراكها السياسي الراهن؟ وهل هي فعلاً جماعة اصلاحية بلا ادنى ايدولوجيات اومنهجيات فكرية؟ ام هي جماعة لا زالت تحتفظ ببقايا انتماء وولاء لما يسمى بالاسلام السياسي الذي جاءت به الانقاذ في ديباجتها الخارجية؟ ثم ما هي الوجهة التي ستتخذها هذه الجماعة حال انتهاء تفاهمات «الوطني والشعبي» الى انتاج حلف اسلامي جديد بمكونات وادوات جديدة؟ وهل من المرجح ان تصبح جماعة غازي العتباني احدى مكونات هذا الحلف؟ ام ستتجه الى ملء خانة المؤتمر الشعبي الذي يسلك الان طريق «العودة للحلف القديم»، خصوصاً ان حركة الاصلاح الان باتت هي الاقرب لقيادة التحالف الاسلامي المعارض للمؤتمر الوطني وحلفائه الجدد والقدامى..
شواهد ومعطيات عديدة تؤكد ان هذه الحركة آخذة في التطور والتمدد كتيار سياسي اصلاحي يحاول ان يتخلى عن ماضيه ويسقط فكرة الاسلام السياسي كخيار او نموذج لحكم السودان، وقد اشار الى هذه الحقيقة القيادي بمنبر السلام العادل عبدالوهاب سعيد في حديثه للزميلة «التيار» وذكر ان حركة الاصلاح الان ليس لديها مانع في ان يكون حكم السودان «علمانياً»، وبالتالي من غير المقبول ان تلتقي هذه الحركة او تندمج مع حزب اوحلف اخر يتخذ من الهوية الاسلامية شعاراً ومنهاجاً كمنبر السلام العادل او هكذا يعتقد الاخ عبد الوهاب سعيد. ولو ان هذا الاعتقاد كان صحيحاً فان حركة الاصلاح الان تكون قد تجاوزت فكرة «الاصلاح» ودخلت فعلاً مرحلة المفاصلة الاسلامية والفكرية مع جماعة «الاسلام السياسي». ولكن العالمين ببواطن الحركة الاسلامية ومجالسها الخاصة، يستبعدون تماماً كل هذه المآلات ويرجحون كذلك بان لب الفكرة التي تأسست عليها هذه الحركة الاصلاحية ربما لا تتعدى كونها تبادل ادوار وتكتيكات وخطط مرحلية داخل ملعب سياسي واحد مهما علت الاصوات والصراخات.
حينما يستعصي الرحيل
قبل حوالي سبعة أعوام أناخت «اليونميد» رحالها في ارض دارفور واطل اصحاب القبعات الزرقاء عبر شرعية القرار الاممي «1769» بموجب الفاصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، ليس من اجل عيون دارفور ولا من اجل حفز الحركات للدخول في مشروع السلام «المؤجل»، ولكنهم جاءوا الى هنا لغاية في نفس الامم المتحدة فملأوا الافق وسدوا الطرقات وانتشروا في الاسواق.. كان العشم ان تنتهي هذه العذابات الى الابد ويوقف نزيف الدم والاحتراب القبلي، ولكن سقط العشم فكم من ضحايا هذه الحرب الاهلية هم اصحاب هذه القبعات ولم تحمل الحركات المسلحة الى خيارات السلم، ولكنها زادت عناداً واشعالاً لاوار الحرب.. وحينما انتهى التفويض الاممي لهذه «القبعات» استعصت البعثة على الرحيل وطرقت تبحث عن تمديد اخر لتفويضها، فصنعت المبررات والحيل واثارت من الغبار الكثيف وبالقدر الذي يحجب الرؤية عن حقيقة ما جرى ويجري الان، حتى تبقى هذه القوات هناك على المسرح الدارفوري.
ولكن، أليست الحكومة هي التي استجلبت لبلادنا كل هذا الوبال وفرضت علينا هذه الحلول «المستوردة» والفطيرة ؟ ولكن يبدو وكأن القضية عصية الحلول والعلاج على الحكومة وعلى دبلوماسيتها، ولكنها وعبر تصريح مقتضب من سعادة السفير عبدالله الأزرق وكيل الخارجية، تصريح مثير يبعث القلق ليس فيه اي جهد دبلوماسي يخفف هواجس الشعب ويتيح الفرصة للحكومة لبحث خياراتها لمواجهة «شيء ما»، قالت الخارجية السودانية ان الامم المتحدة تتأهب للقيام به ضد السودان واكتفت بهذا التصريح المخيف والمزعج، دون أن تتكهن أوتتخيل فقط ما شكل وطبيعة هذا «الشيء ما». ولهذا فإن تصريحاً بهذا الشكل سيفتح الباب واسعاً لكل «التخيلات» ويترك آثاراً نفسية وربما امنية على شكل الواقع السوداني بكل تقاطعاته، حتى لو كان هذا الشيء المتوقع من الامم المتحدة لا يرقى للدرجة التي تبعث فينا القلق والخوف. فليت الخارجية السودانية تعكف منذ الآن وعبر آلياتها ووسائلها الدبلوماسية، لفك شفرة هذا الشيء المجهول الذي اجبر المنظمة الاممية للتكتم عليه واعلانه فيما بعد ضد السودان.
نفرة ضد «التيارات»
لفيف من أبناء محلية «24» القرشي الوليدة بولاية الجزيرة، تداعوا بالامس عبر نفير شعبي احتضنته قاعة اتحاد الاطباء بالخرطوم. جاءوا ليصنعوا واقعاً وفجراً جديداً يتوكأون على أحزان الماضي وجراحاته القديمة وربما الموروثة، يحاولون رسم ملامح محلية بلا ملامح وبلا تاريخ لا تملك من القدرات والمقومات ولا حتى بحدها الادنى، ولكنها محلية جاءت بها ظروف قاسية افرزتها صراعات الحزب الكبير وتطلعات قيادات وصدامات تيارات وسباقات سياسية، تبحث عن مواعين استيعابية لطاقاتها المبعثرة، محلية جاءت وبكامل إرادتها وقيادتها تحمل «عكازتها» وتمد يديها تستجدي أبناءها وفلذات اكبادها الذين انتشروا في الفضاء السوداني كاشجار من الدليب، ولكن قيادتها الممثلة في معتمدها الاستاذ عبد الباسط الدخيري، أفلح كثيراً في ان يطرح قضيته بكل شفافية عل الآخرين يستجيبوا لنفرته هذه.. ولكن اخطر ما في نفرة الامس، ان تتداعى نزاعات المناقل الكبرى على مسرح القرشي وبكل تفاصيلها وادواتها، ولهذا فان كثيرين من الذين تحدثوا كانوا يريدونها نفرة ضد «التيارات» ونفرة للقرشي وللأجيال القادمة.
هاشم عبد الفتاح
صحيفة الإنتباهة
ت.أ