1-الأرقام تحكي عن نفسها
معسكرات النازحين بولايات دارفور الخمس بلغ عددها حوالي (51) معسكراً، وتعتبر ولاية شرق دارفور من أكثر الولايات قلة في عدد من معسكرات النازحين، إذ يوجد بها معسكر واحد للنازحين؛ اسمه معسكر (النيم)، ويقع بالقرب من مدينة الضعين حاضرة الولاية، ويأوي حوالي (100) ألف نازح تقريباً. تليها ولاية شمال دارفور التي توجد بها خمسة معسكرات؛ ثلاثة منها حول (الفاشر)، حاضرة الولاية، وهي معسكرات (أبوشوك)، (زمزم) و(السلام)، إلى جانب معسكري (كساب) و(فتابرنوا) بمحلية كتم. بالنسبة لولاية غرب دارفور فتأتي في المرتبة الثالثة، وتوجد بها تسعة معسكرات للنازحين، هي (أردمتا)، (كريدينق-1)، (كريدينق-2)، (الجامعة)، (الرياض)، (برتي)، (الحجاج)، (أبو ذر) و(السلطان)، فيما تأتي ولاية جنوب دارفور في المرتبة الرابعة من حيث عدد معسكرات النازحين وبها عشرة معسكرات هي (كلمة)، (عطاش)، (السلام)، (دليج)، (سكلي) و(موسى)، وجميع تلك المعسكرات تقع حول مدينة (نيالا) حاضرة ولاية جنوب دارفور، وتحيطها في شكل حزام دائري، ويضاف إليها كل من معسكر (كاس) بمحلية كاس، ومعسكر (مرشينج) بمحلية مرشينج، ومعسكر (شعيرية) بمحلية شعيرية، ومعسكر (مهاجرية) الذي يقع بالقرب من منطقة مهاجرية.
2-اكتظاظ وانتشار واسع
بحسب إحصائيات برنامج الغذاء العالمي، فإن ولاية وسط دارفور تعد الأكثر اكتظاظا بمعسكرات النزوح من بين ولايات دارفور الخمس، وتضم (21) معسكرا للنازحين بها حوالي (367368) نازحا، وتحتضن مدينة (زالنجي) حضارة ولاية وسط دارفور، وحدها أربعة معسكرات للنازحين هي (الحميدية)، (الحصاحيصا)، (خمسة دقائق) و(طيبة السلام)، فيما تضم محلية أزوم معسكري (رمنتاس) و(الشباب)، وتضم محلية وادي صالح كل من معسكرات (جدة)، (عرديبة)، (الجبلين)، (السلام)، (دليج) و(أم خير)، فيما تضم محلية مكجر معسكر (مكجر)، وتضم محلية أم دخن معسكر (أم دخن)، ويوجد بمحلية نرتتي معسكران هما (نرتتي جنوب) و(معسكر اشترينا)، وفي محلية بندسي يوجد معسكران هما (بندسي شمال) و(بندسي جنوب). وبخلاف هذه المعسكرات توجد معسكرات أخرى صغيرة داخل المدن الكبيرة، أصبحت بطول الفترة الزمنية جزءاً من أحياء تلك المدن.
3-المهجَّرون في الأرض
حسناً، بمجرد أن تطأ قدماك أحد تلك المعسكرات المذكورة، ومنذ الوهلة الأولى، تتراءى علامات البؤس ومسحة التعب والمعاناة على الوجوه. عطفاً على صراع سياسي، لا ناقة لهم فيه ولا جمل، ظل جل هؤلاء يقبعون خلف السجون الاضطرارية التي تفتقد لأبسط مقومات الحياة الإنسانية. لعقد من الزمان ظل نقص الغذاء والمياه النظيفة والصحة سمة ملازمة لحياتهم. لا تحكِ ولا تسأل عن ترف هموم البيئة، ولا التعليم الجيد.. انس مناقشة قضايا الإنتلجنسيا من شاكلة تلك التي تتحدث عن التسرب المدرسي وإشكالات الفاقد التربوي.!
4-حكاية “أبوشوك”
في سابق عهده، في بداياته الأولى، حينما كانت أزمة دارفور تتصاعد بمتوالية هندسية، وأعداد النازحين تزداد يوميا، كان معسكر (أبوشوك) للنازحين بولاية شمال دارفور قبلة للمنظمات الإقليمية والدولية.. بعد عقد من الزمان تحول من المعاناة إلى مدينة كاملة، ونشأت بداخله طبقة يمكن أن نصطلح على وصفها بـ(البرجوازية). السوق في المعسكر لا يختلف كثيرا عن سوق الفاشر وبقية الأسواق الأخرى، وتوجد به كل أنواع السلع الاستهلاكية التي يحتاجها المواطن، بل أنه أصبح قبلة لمواطني الفاشر الذين يرتادونه يومياً.
الحياة في (أبوشوك) تغيرت كثيراً عن سابق عهدها. أصبح النازحون فيه يمارسون حياتهم الطبيعية، بعد حالة التكيف التي حدثت لهم إثر التواجد به لفترة عقد زماني، تقاسموا فيه كل أنواع المعاناة والشقاء. رويدا رويدا حدث اندماج اجتماعي بين مواطني المدينة والمعسكر، الذين تجاوزوا بمرور الزمن ما تعرضوا له جراء الحرب. يحكي بعض هؤلاء لـ(اليوم التالي) قصص وحكاوي النزوح المرة التي تدمع الأعين وتحزن القلوب.
5-الفخر والفخار
المعاناة في (أبوشوك) لازالت تظلل وجوه عدد كبير من النازحين، رغم أن الحياة تبدو في المعسكر وكأنها طبيعية.. تقول سميرة محمد، التي نزحت في عام 2004م من قرى منطقة (كبكابية) في حديث سابق لها مع (اليوم التالي) إن الحياة في منطقتها التي نزحت منها قبل عشرة أعوام تختلف كثيرا عن حياة المعسكر، التي تصفها بأن بها ذلة وإهانة للإنسانية. سميرة التي تحمل صغيرتها (حواء) في حضنها حكت كثيرا عن مساويء الحرب ومعاناة المعسكر، لكنها لازالت تحلم بغدٍ أفضل وأسعد. محدثتي تعمل في صناعة الفخار بمختلف أنواعه، وبيعه في السوق بأسعار مختلفة، لتوفير الأكل والشرب وتربية أطفالها وأفراد أسرتها، وقطعت سميرة التي تعتبر نموذجا للمرأة المكافحة بأنها حال توفر الأمن والخدمات ستعود لمنطقتها الأصلية التي نزحت منها، أما بخلاف ذلك فلا يمكنها العودة.
6-“حوا” و”حوا” و”كلتوم”
(حواء كتر) النازحة القادمة إلى معسكر (أبوشوك) من مناطق كبكابية هي الأخرى تحدثت بحزن بالغ عن الظروف القاسية التي مرت بها حينما نزحت من منطقتها إلى المعسكر، وربطت العودة الطوعية للنازحين بتوفير الأمن والسلام، وتخوفت من انتشار السلاح الذي اعتبرته يهدد العودة الطوعية للنازحين، وطالبت بالتعويض عن الأموال والممتلكات التي فقدتها بسبب الحرب، وتتابع (كتر) حديثها لـ(اليوم التالي) بحسرة: (ربنا يعوضنا). أما حواء جابر، النازحة من منطقة الكوما، والتي تعمل في بيع الشاي، فتقول إن لديها ثلاثة أطفال، وزوجها سافر للتنقيب عن الذهب. تشتكي محدثتي حواء من غلاء الأسعار والظروف التي تصفها بـ(الصعبة للغاية)، ونبهت إلى أنه من الصعوبة أن يعود النازحون لمناطقهم على اعتبار أن الوضع في المعسكر أفضل من قرى العودة، وأن الخدمات التي تتوفر بالمعسكر لربما لا تتوفر بالقرى.
المعاناة الحقيقية جسدتها قبالتي كلتوم يعقوب سليمان، التي نزحت إلى المعسكر من (أم القرى)، غرب كتم. (كلتوم) تمتهن الأعمال الشاقة المتمثلة في صناعة الطوب من أجل إعالة (4) أطفال، بعد أن سافر زوجها للبحث عن الذهب، في منطقة (جبل عبدالشكور). تشكو محدثتي من سوء الأوضاع داخل المعسكر، وارتفاع أسعار المواد الغذائية. وكشفت (كلتوم) عن حقيقة مفادها أن مناطقهم التي نزحوا منها سكنوا فيها وافدون جدد، وطالبت بمنحهم تعويضات، قبل أن تتابع قولها بعبارة ملؤها الحسرة: (نحن خسرنا كتييير).!
7-معاناة و”جلنكوي”
الخدمات الأساسية داخل المعسكر ليست بحالة جيدة وبحاجة إلى تحسين وتطوير، ويعاني النازحون داخله من شح في مياه الشرب النقية ومعظمهم يتناولون المياه من(المضخات) اليدوية التي تحتاج إلى بذل جهد كبير لاستجلاب المياه. وفيما يختص بالتعليم والبيئة المدرسية غير جاذبة بكل تأكيد وتعاني جل المدارس من نقص في الإجلاس والكتاب المدرسي والمدرس المؤهل المدرب، فضلا عن أن ظروف النزوح خلفت عددا كبيرا من الفاقد التربوي بأعداد كبيرة، فيما تعتبر الظروف الصحية والطبية داخل المعسكر ليست كما يتمناها النازحون وتدهورت كثيرا بسبب مغادرة عدد من المنظمات العاملة في المجال الصحي، إلى جانب عدم اهتمام حكومة الولاية بأمر الصحة في معسكر أبوشوك. وبعد قطيعة نفسية دامت لعدة سنوات بين مواطني الفاشر ونازحي معسكر أبوشوك أصبح المعسكر قبلة للمواطنين بعد حالة التداخل والتسامح والاندماج الاجتماعي الذي حدث بينهما عبر الأنشطة الرياضية والثقافية والاجتماعية وأصبح كثيرا من مواطني الفاشر يقضون جزءً من وقتهم في المعسكر، فيما يأتي آخرون لسوق نيفاشا الشهير بالمعسكر لتناول اللحوم (الشية) بالسوق وبعدها تناول مشروب الطاقة الشهير الذي تم ابتكاره في منطقة (كتم) شمال دارفور المعروف بـ(جلنكوي) الذي يصنع من عيش الدخن والسكر والطحنية والذي يستخدم كمادة هاضمة للأكل.
8-الرياض و”كرندنق”
الحزن والأسى لا يبارح النازحين في معسكري الرياض و(كرندنق) بولاية غرب دارفور. لا شيء هنا خلا حكاوي وقصص التشريد القسري، والموت الزؤام بشتى أنواعه وصنوفه. يقول داود أرباب إبراهيم، رئيس اللجنة العليا للنازحين بولاية غرب دارفور، إن الولاية بها (27) معسكراً للنازحين حول مدينة (الجنينة) حاضرة الولاية، يقدر عددهم بحوالي أكثر من (288) ألف نازح، بخلاف المعسكرات الأخرى التي يقدر عدد النازحين فيها بحوالي (186) ألف نازح.. ورغم كل الذي ذكر لازال النزوح مستمرا بشكل يومي وبالمئات وحتى النازحين الذين عادوا بشكل طوعي إلى مناطقهم تم تهجيرهم مرة أخرى وعادوا لمعسكرات النازحين.
9-شوق للبلد الآمن
(كنا مواطنين أحرار نعيش حياة طبيعية، لكن الحرب اللعينة جاءت بنا إلى معسكرات النازحين التي لا تختلف كثيرا عن الجحيم).. هكذا يبتدر أيوب إسماعيل إبراهيم، رئيس مشايخ معسكر (الرياض) للنازحين، حديثه مع (اليوم التالي)، قبل أن يطالب الحكومة بتقديم المساعدات الإنسانية ومعالجة الأوضاع القائمة حالياً، وتابع: (نحن مشتاقون لمناطقنا التي نزحنا منها، وفي حال توفر الأمن والخدمات الأساسية حتما سنعود اليوم قبل الغد). محدثي أشار إلى أن هناك مواطنين عادوا طوعيا إلى منطقة (كرتي)، وبعد أن تم الهجوم عليهم من قبل مجموعة مسلحة مجهولة عادوا للمعسكر مرة أخرى. في ذات المنحى يشتكي النازحون في المعسكرين من سوء الأوضاع الإنسانية وضعف الخدمات الأساسية المتمثلة في التعليم، الصحة، وخدمات المياه، بالإضافة إلى توقف عدد من المنظمات العاملة في المجال الإنساني من تقديم خدماتها.
10-أجمل الأطفال قادمون
هنا معسكر(كرندنق) للنازحين.. تعني الكلمة بلغة المساليت إحضار الشيء إلى مكانه، أي تعني (جيبو هنا).. المنطقة حسب ما يحكى استشهد فيها (7) آلاف من فرسان المساليت في معركة حامية الوطيس ضد الغزو الفرنسي.. في معسكر (كرندنق) الذي يرقد بين (وادي كجا) و(أردمتا) المنازل عبارة عن كوخ لا تتعدى مساحته خمسة أمتار.
(لدي حلم).. عبارة عبر عنها الطفل طه أحمد صاحب السبعة أعوام حينما سألته: (إنت بعدين عاوز تبقى شنو في المستقبل)؟ فأجاب: (أنا عاوز أبقى دكتور). هكذا حال الصغار في كل المعسكرات.. لازالوا يحلمون بعالم سعيد، يصبحون فيه كغيرهم من الأطفال، يعيشون حياة طبيعية، يتعلمون ويحلمون بمستقبل مشرق، يختلف عن الراهن الذي يعيشونه حاليا.
11- مآس وحقائق غائبة
العمدة محمد أحمد زكريا بمعسكر (كرندنق)، أشار إلى وجود أجانب قدموا من دول ( النيجر، مالي وتشاد) تم توطينهم في مناطق النازحين الأصلية التي نزحوا منها، وأكد أنه لديه الأدلة التي تثبت ما ذكره، فيما حكى الشيخ إبراهيم آدم محمد المأساة التي لحقت بهم جراء الحرب وأبان أن 70% من سكان المعسكر مصابون بالرصاص في الأحداث التي أدت بهم إلى معسكر (كرندنق). فيما قال داود أرباب إبراهيم، رئيس اللجنة العليا للنازحين بولاية غرب دارفور، إن الإنسان الذي يعتبر أعظم المخلوقات أصبح أرخصها ويقتل بشكل بسيط وليست له قيمة، وأشار إلى الأحداث التي وقعت في منطقتهم التي نزحوا منها بسبب الحرب التي جعلتهم يتركوا الجثث تبقى لفترة عام كامل في المنطقة التي نزحوا منها في العراء كي ينجوا من الموت. ورغم كل ذلك ستبقى عودة النازحين الطوعية إلى قراهم ومناطقهم الأصلية محددا رئيسيا لمدى نجاح أو فشل أي تسوية قادمة بين الحكومة والحركات المسلحة الدارفورية.
عبدالرحمن العاجب: صحيفة اليوم التالي
ي.ع