> ولا تستهل أية جولة تفاوضية إلا لتختتم أشواطها بعد أيام قلائل من انطلاقتها، ويُعاد في كل منها تكرار نفس التصريحات وإنتاج ذات المواقف دون قطاف ثمار بعينها، ولم تستطع الوساطة التي تقودها الآلية الإفريقية رفيعة المستوى برئاسة الرئيس الجنوب إفريقي السابق ثامبو أمبيكي، إحداث الاختراق المطلوب أو بلورة خطوات عملية تقود إلى الطريق المفضي للحل.. فما السبب وراء ذلك ولماذا هذا المطال؟
> يبدو للوهلة الأولى في السياق العام، أن المواقف المتباعدة المتمترسة خلفها أطراف المفاوضات وتوابعها، معقدة إلى الدرجة التي يصعب فيها تقديم تنازلات وإبداء مرونة كافية تسهل عملية التقارب وطي ملفات الخلاف، لكن هذه المواقف نفسها وراءها كيمياء أخرى مركبة العناصر، تتعلق بوفدي التفاوض والأجواء والمناخات التي تحيط بكل طرف، ثم الطقس التفاوضي نفسه وتتلبده كثير من ألوية الدخان يجب كشف ما وراءها حتى يُفهم ما يترتب عليها.
> ولنبدأ بمواقف قطاع الشمال في الحركة الشعبية، فمنذ البداية لم يكن تكوين وفده المفاوض يعبر بدقة عن قضية المنطقتين، فالعقل السياسي المدبر الذي يقف وراء قطاع الشمال، أراد أن يكون تكوين الوفد تجسيداً للمطلوب فعله في توظيف قضية جنوب كردفان والنيل الأزرق وجعلها منصة للقفز إلى القضايا القومية المتعلقة بالسودان كله، والفكرة الرئيسة وراء ذلك هي إعادة صياغة السودان كله وفق أسس جديدة بعد فشل المشروع الأول للحركة الشعبية بانفصال جنوب السودان وتكوين دولته، ولم يكن المطلوب لدى الدوائر الغربية التي صنعت الحركة الشعبية الأم وقطاع الشمال فيما بعد، أن تصل أية مفاوضات حول المنطقتين إلى تسوية تنهي الأزمة وتوقف الحرب دون أن يمتد الحل ليشمل بقية قضايا السودان، مع إضعاف التركيبة الحاكمة فيه وإحداث وتوليد معادلة جديدة في السلطة والثروة والهوية لبلد مثل السودان.
> وظلت هذه الفكرة المركزية حاضرة بقوة في كل جولات التفاوض السابقة، حيث يتخذها كإنجيل مقدس أعضاء وفد قطاع الشمال الذي يتكون من عدد محدود من أبناء المنطقتين تحت رئاسة شخصية لا علاقة لها بهاتين المنطقتين، لكنها تقود المفاوضات لحسابات أخرى وأجندة ليست من بينها هموم أصحاب المصلحة الحقيقية المتمثلة في وقف الحرب وتضميد الجراح وتعويض ما فات من التنمية والخدمات وحسن تدبير المشاركة السياسية.
> ويدخل وفد قطاع الشمال الجولات التفاوضية ليس بغرض التوصل لاتفاق، ففي كل الأحوال يكون قلب وفده وأعينه معلقة بالقوى التي تقف خلفه سواء أكانت الدوائر الأجنبية التي رعت ودعمت أو حركات دارفور ومكونات ما تسمى الجبهة الثورية التي قاتلت وساندت، ويتعامل قطاع الشمال مع هذه القضية الخطيرة، بأن الحل المنتظر لم ينضج بعد ولم يحن ميقاته، ويتخذ في سبيل ذلك أساليب تاكتيكية متنوعة لإطالة أمد التفاوض والتذرع بأسباب واهية لاستنزاف الحكومة في القتال ومحاصرتها بالانتقادات الدولية حتى تكون قابلة للابتزاز وتستجيب للضغوط وتضعف قبضتها على مقاليد الأمور وزمام المعارك في المنطقتين.
> والملاحظ أن تكتيكات قطاع الشمال في كل مرة تتشابه، يأتي الوفد للمفاوضات، ويقدم في البداية إشارات يفهم منها أن الجولة يمكن أن تستمر وتنجح ثم ينكص على عقبيه وينكث بما وعد، وتتأزم الأوضاع وتصل إلى طريق مسدود، ثم ترفع الجولة إلى موعد لاحق، وهذا تكرر عدة مرات في نسق واحد متطابق الغرض منه الدوران في دائرة الفراغ إلى حين يتم اتخاذ قرار من عرابيي قطاع الشمال وتجهز الإرادة الفعلية لصنع السلام المراد إقراره.
> وخلال كل الجولات التفاوضية الثماني الماضية، لم تتغير اللهجة التفاوضية، ولم تغب الدوائر الأجنبية التي ولد قطاع الشمال من رحمها وتغذيه تغذية مباشرة، ولم تغب الجبهة الثورية وحركات دارفور، وكانت الإشارات والكروت الحمراء تُشهر في وجه وفد الحركة الشعبية ــ قطاع الشمال، كلما حاول التقدم خطوة واحدة نحو أجندة التفاوض الحقيقية التي تقود للتوقيع وإحلال السلام، كما توضع الفواتير الباهظة على المنضدة أمام قيادة الوفد وهي فواتير واجبة السداد، بجانب فواتير الوفد الأخرى الذي استمرأ توظيف قضية جبال النوبة والنيل الأزرق لمصالح ذاتية وشخصية تنتهي في حال أفرد السلام جناحيه في المنطقتين.
«نواصل غداً حول المواقف الأخرى»
الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة
ت.أ