دعونا نفكك هذه المقدمة لنقول إن المؤتمر الوطني وهو يُقدِم على الانتخابات التي يعلم أنها تعوق اجتماع الأمة السُّودانية على صعيد التراضي الوطني الذي ابتُدر من أجله الحوار يتناقض كثيراً في موقفه هذا إذ يحاول الجمع بين الأختين في زيجة واحدة مستحيلة، كما أن عدم إنفاذه لخريطة الطريق التي وافق عليها وتلكؤه في إنفاذ اتفاق أديس أبابا بحجج واهية من شاكِلة عدم اعترافه بالجبهة الثورية رغم أنه وافق على الاتفاق الذي ضمَّها مع المحاورين (اتفاق أديس أبابا) يمثل تناقضاً آخر يوشك أن يقضي على الحوار الوطني وعلى مطلوباته التي بدونها لا يمكن لهذا الوطن أن يمضي إلى الأمام بل سيظل يتنكب الطريق ويعيش في حالة الاحتقان السياسي والاحتراب التي عطَّلت مسيرته دون سائر الأمم التي مضت في طريق الاستقرار السياسي والنهضة والحكم الراشد.
صحيح أن المؤتمر الوطني بالمطبَّات التي يضعها في طريق الحوار يعمّق أزمة الثقة في نفوس من يرفضون الحوار بمن فيهم نحن الذين انخرطنا في متاهاته ناهيك عن الأبعدين الذين يعتبرون المؤتمر الوطني ونظام الإنقاذ كذاباً أشراً وشيطاناً رجيماً لا يعرف للعهود والوعود معنى ولا يرقب في مخالفيه إلاّ ولا ذمة وهذه تحتاج إلى معالجة من عقلاء المؤتمر الوطني الذين يتعيَّن عليهم العمل الجاد في جبهتين.. جبهة إقناع أولئك الصقور من إخوانهم في الحزب والدولة بأن يلينوا من مواقفهم بغرض إنفاذ الحوار والتراضي الوطني وجبهة الخصوم وذلك من خلال التحرك نحوهم بشيء من الرفق وتطمينهم باتخاذ خطوات عملية وقرارات حاسمة لإزالة المتاريس والمطبَّات من طريق الحوار.
في ذات الوقت فإن الحركات المسلحة ومسانديها في الداخل وبقية الرافضين للحوار بمن فيهم الإمام الصادق المهدي يحتاجون إلى شيء من المرونة تسهِّل من التلاقي بين المعسكرين المتخاصمين.
أكثر ما يحيرني موقف الشيخ الترابي ولا أقول المؤتمر الشعبي لأنني أومن الآن أن الترابي يدير حزبه بصورة طائفية على طريقة المريد والأتباع أو قل القطيع بالرغم من أن نخب المؤتمر الشعبي ليست من هذا الطراز ويُفترض أنها حرة في تفكيرها.. أقول إن الشيخ الترابي ومريده الأكبر كمال عمر يسيران بحزب الترابي على أساس أنه ملكية خاصة وهذا يحتاج إلى مقال منفصل يغوص في أزمة الشيخ الذي لن أفهم ما يفعل إلا في إطار احتمالين.. احتمال أنه فقد التوازن العقلي والعبقرية السياسية التي كان يتمتع بها أو أنه (لابِد فوق رأي) لا نعلمه على غرار مسرحية (القصر رئيساً والسجن حبيساً) التي دوَّخ بها العالم أجمع!
الشيخ الترابي الذي ما خرج على الرئيس وعلى المؤتمر الوطني إلا اعتراضاً على التعديلات الدستورية التي تعود من جديد بعد نحو 15 عاماً صامت كما القبور بل إنه يقدم المبررات (القانونية) لكل ما يقترفه خصومه القدامى بما في ذلك تضييقهم على الحريات.. كذلك، وذلك هو الأخطر على الأوضاع السياسية المتردية، فإن الترابي يعتبر بمواقفه الحالية، الُمحرّض الأكبر للمؤتمر الوطني على تعويق مسيرة الحوار فقد منحه الشرعية والجرأة في كل ما يقوم به من تطرِّف في المواقف وانقضاض على الحريات ومضى في إجراء الانتخابات، ولن أتحدث عن حزب الميرغني الذي كثيراً ما وصفته بالحزب المحتضر (لا هو حي فيُرجى ولا ميت فيُنعى) فهو لا في العير ولا في النفير ذلك أن الميرغني يدير حزبه بالريموت كونترول من ملجئه الاختياري في لندن البعيدة بينما يسلم أتباعه رقابهم له وهو لا يدري ما يحدث في حزبه ولا في وطنه المأزوم ويكفي أن نذكر أن أحد قياداته (التوم هجو) يشغل منصب نائب رئيس الجبهة الثورية المعارضة بينما يجلس على الجانب الآخر من مائدة التفاوض ممثله في الحكومة أحمد سعد عمر! ولكن هل يجوز لي أن ألوم الترابي والميرغني اللذين يسوقان قطعانهما سوق الشياه أم ألوم الأتباع الذين يسمحون لهما بكل ما يفعلان من (جلايط) وجرائر في حق الوطن المأزوم خاصة نخب المؤتمر الشعبي ومثقفيه؟!
هذه شذرات من المشهد السياسي المحتقن بالخصومة بين المكونات الوطنية تغذيه دول (الترويكا) المكونة من أمريكا وبريطانيا والنرويج وأصدق بل أبصم على ما قاله بروف غندور عن الدور الأمريكي القذر في تحريض بعض الحركات المنضوية في الجبهة الثورية على عدم التوصل إلى اتفاق فقد تحدث غندور عن اجتماعات عقدها المبعوث الأمريكي دونالد بوث مع عرمان وتوجيهه بعدم توقيع أي اتفاق مع الحكومة.
الطيب مصطفى-الصيحة