حاولت الخرطوم مرة شكر بعض جنودها ممن دافعوا عن حماها ، فجعلت لهم نصبا ، أتعرف ماذا اطلقت عليه ؟ الجندي المجهول، لم تكلف نفسها ببحث اسماء الجنود او صورهم وما يرمز اليهم ووضعها شكرا وعرفانا ، ولذلك لا يحس احد الجنود او اهاليهم بنوع من العلاقة مع هذا المجسم خلافا للقيمة السلبية في اطلاق مسمى ( الجندي المجهول ) بدلا عن ( الجندى الباسل ) مثلا” ثم إن عفوية الاسم لدليل آخر على رسوخ اللامبالاة وتقدير الآخر.
الخرطوم مدينة محبطة ، يظهر الحزن في جميع تفاصيلها ، لا تبذل اي مجهود في اظهار مفاتنها ثم انها لا تقدرها ولا تحتفي بها كذلك ، كأنما لم تكتشفها بعد ، وهي كذلك لا تعبأ بزوارها ولا ساكنيها ولا ترشدهم الي كيفية التصرف او الي كيفية الوصول الي اي مكان ، و ان فعلت ذلك فانما تفعله على استحياء وبحالة من القرف الظاهر ، ترى لم هي الخرطوم حزينة ومحبطة ؟
الخرطوم كذلك مدينة بخيلة ولا تعرف الشكر ، تمتاز بذاكرة قصيرة وتبدو ناكرة للجميل لاولئك الافراد اللذين اجزلوا لها العطاء ، فمهما كنت رياضيا” لامعا” وحققت لها الانتصارات ورفعت من شأنها ، او سياسيا” محنكا قدتها وقدمت لها الخطط ، ومهما كنت فنانا وصغت وجدانها وعدا ولحنا وتمني أو كنت عالما ، مهنيا أو كاتبا ، لا يهم ، فهي لا تمنحك لقبا ولا تصنع لك نصبا ولا تطلق اسمك على شوارعها ومبانيها ومطاراتها، لا تصنع لك التماثيل ولا تضع صورك على مبانيها ، واقع الامر انها لاتحفل بك ولا تحاول ان تجعل منك نموذجا وقدوة لغيرك و للاجيال القادمة ، ليست من وسيلة عملية افضل واسهل لدراسة التاريخ وبناء ثقة الافراد في انفسهم وبلادهم من تجسيد رموزه فيزيع صيتهم من خلال انجازاتهم ويحفز ذلك الاجيال الجديدة وغيرهم للسؤال عنهم كما وأن هذا أمر سيعود بنفع اقتصادي مباشر وسيبادل الناس البلد الحب ،لتقنع الآخرين بما لديك يجب عليك أن تعرف ما لديك وأن تؤمن به بداية ،اليس مدهشا اننا لا نجد اثرا لحضارة كوش العظيمة التي حكمت من كبوشية وحتى البحر المتوسط ولأكثر من الف عام ؟ اين حديقة نبتة واين متحف مروي واين هو مجسم السلطان على دينار كاسي الكعبة وصاحب الانجازات العظيمة ؟ بخل الخرطوم ليس داءا” جديدا او طارئا” سادتي حتى لا نخدع انفسنا ، انه داء قديم ومتجذر في الجينات فيما يبدو والا فما عليك سوى إجراء مسح صغير لمعالمها البارزة وشوارعها الرئيسية لتكتشف كم هي اسماء جامدة ( دع جانبا اسماء الحكومات وقادتها ) ، ما ضّره مطار الخرطوم لو انه صار مطار الازهري او مطار ترهاقا وما ضر مطار الخرطوم الجديد ( لا حظ الكسل الذهني في هذه التسمية ..الجديد !! ) ما ضره لو اصبح مطارعبدالله الطيب اوعبدالفضيل الماظ ،يا الهي ، كيف تصنع القدوة في هذه البلاد ؟.
فيما يبدو ان هناك سبب اصيل لحزن هذه المدينة ، واصالة هذا الحزن يتجلى في كونه ظل عصيا على كل الانظمة ، مدنيها وعسكريها ، و يبدو لي إن هذا الحزن قديم قدم الخرطوم نفسها ، وليست مظاهر قسوتها البائنة الا انعكاس لطبيعتها ، ترى لم هي حزينة ؟ أهي قديمة بالية ؟ ام لأنها تحس بالغيرة من رصيفاتها ، فثمة مدن وعواصم اقل عمرا منها بكثير ولكن وضعها افضل ولأنها ترى فضلا على هذه المدن ولكنها في المقابل لا تجد الاهتمام الأمثل فيتبدى ذلك في ضجرها البائن وفي قسوتها ؟ أتراها حزينة بسبب ابنائها اللذين يبدعون في صناعة الجمال للآخرين ويديرونه بكل حرفة بينما يضنوا عليها ببعض ما يفعلونه هناك ؟ ام تراها ضجرت من ابنائها اللذين يتشاجرون مذ خلق الله الارض ولا يقبل بعضهم بعضا ، فهي قد ملّت وضاقت بهم وقررت مستسلمة ان تذم شفتيها وتنظر اليهم ؟ فهم لا يرجى منهم رجاء ؟ ربما هي حزينة من مقدار الانانية اللذي يضرب ساكنيها ؟ أو لأنها حزينة كونها لا تعرف من هي ؟ وربما لأن ابناءها لا يقبلونها ؟ اظنهم يفعلون ذلك لانهم لا يقبلون انفسهم ؟ لعله بعض ذلك ولعله كل ذلك.
إنه لمن المؤسف أن احدا لم يحتفي بهذه البلاد ولم يكتشف جمالها ولم يعمل على تسويقه ، طبيعتها السهلة الخلابة ، محمياتها وغاباتها ، ملتقى النيل العظيم وسليل الفراديس ، وبشمسها وبشلالاتها ، لم يحتفي احد بمزيجها المتفرد ، لم يحتفي احدا بتاريخها وحضارتها ، لسبب ما يعتقد الكثيرون انها طارئة او انهم طارئون ، اي تاجر فاشل هذا اللذي يعرض بضاعته بهذه الطريقة ؟ ليس هناك من سبيل سوى العمل على تغيير هذا الواقع ومحاربة هذا الجين الوراثي ، نحتاج الي ارادة وعزيمة قوية ونحتاج الي رؤية وإلي قيادة وعمل جماعي فالفقر ليس فقر الموارد ولكنه فقر الهمم .
عثمان أحمد