بالنظر إلى شريحة (الناشطين)* ضد حكم (الإنقاذ)؛ في تجلياتهم (الإسفيرية) أو (معازلهم) التي يتعاطون فيها النقد والتحليل للواقع والتنظير حول ما ينبغي فعله لمقاومة سيطرة نظام الحكم الكابوسي هذا؛ ألاحظُ أن ثمة افتراض يأخذ حيّز البداهة لدى (الناشطين) وهو أن السواد الأعظم من الشعب يعارض الإنقاذ تماما مثلما يعارضونها هم، وأن هذا (السواد الأعظم) متفق معهم في الأبجديات والبديهيات التي يحاربون لأجلها وفي أدوات الحرب حتى.
حسناً، من الواضح بالنسبة لي على الأقل- أن هذا الافتراض غير صحيح، وأن الغالبية العظمى من المجموع/الجماهير/الشعب لا تلتقي مع شريحة الناشطين هؤلاء في نقاط مركزية مشتركة، وأن هذا النظام قضى 24 عاماً لأنه (إضافة إلى أسباب أخرى) ظل يفهم طوال هذه السنوات كيف يدير المفاتيح التي تجعل الكتلة الأكبر من الناس تتبعه مهما كان، بينما كانت هذه المدة بالنسبة لشريحة (الناشطين) فترة من العزلة المرهقة والمشوِّشة التي جعلت هذه الشريحة تتخذ أنواعاً من ردود الفعل، منها بالطبع- رد الفعل الذي نحكي عنه هنا: إقناع الذات بوهم أن الشعب يتفق معهم يفكر مثلهم.
أدت أحداث سبتمبر أكتوبر الدامية، إلى ترسيخ هذا الاعتقاد أكثر لدى (الناشطين)، إذ افترضوا أن ذات الأسباب التي أدت إلى خروج الناس إلى الشوارع هي الأسباب التي تحرك نشاطهم المعارض للحكومة، على الرغم من أن هذا الافتراض لم يتعرض لاختبار حقيقي و(غربلة) تحليلية تجعله في حال ثبوت صحته- يأخذ مكانه كمرتكز لقراءة جادة تشتغل على جدل (النخبة المجموع) الأزلي، بما يفيد المشترك من الأهداف (حال وجدت). لذا عندما انحسرت موجة الأحداث؛ دخل الكثير من الناشطين إلا القليل- في حالة من الحيرة تشبه ذات الحيرة القديمة الممتدة لربع قرن، وربما أدت الحيرة هذه المرة إلى اهتزاز هذا الاعتقاد الذي يكاد يكون بديهياً، اهتزاز قد يؤدي إلى بروز تساؤلات من شاكلة: ماذا لو أن الشعب لا يظن أن هذه الحكومة بهذا السوء؟.. وهو سؤال بحاجة إلى حمايته من أجل الإمعان فيه، قبل أن تهجم عليه التبريرات الجاهزة والكسولة عن أن الشعب مخدوع من قبل الآلة الإعلامية الحكومية وتتم السيطرة عليه… الخ، وضعف هذه التبريرات يظهر جلياً في أنها تضمر كذلك أن الشعب غير واعٍ ومسيطر عليه إذن فهو غير متفق معك في رؤيتك لحكومة الإنقاذ هذه! كما إن التبرير الغاضب الشهير (شعب جبان) بصيغه المختلفة؛ يضمر كذلك- عزلة شريحة (الناشطين) وعدم اتفاقها مع المجموع/الجماهير/الشعب الذي اختار الجبن في مقابل شجاعة الشريحة الناشطة!
إن إقناع (الناشطين) لأنفسهم بأن المجموع/الجماهير/الشعب متفق معهم تماماً أو حتى بنسبة كبيرة في مسألة زوال النظام الإنقاذي وأدوات الإزالة هذه؛ لا يعدو كما أسلفت- كونه رد فعل من هذه الشريحة تجاه الارتباك الذي يواجهها في محاولتها فهم هذا الكيان المعقد: المجموع/الجماهير/الشعب، وهو رد فعل يتجاهل ويروغ بسبب العجز أو الكسل- عن مواجهة حقيقة أن التلاقي بين الشريحة وكيان المجموع هذا يحتاج إلى حوار حقيقي وشاق ومؤلم أحياناً لتعود الشريحة من عزلتها عن المجموع، وهي العزلة القديمة التي تتشابك مع خيوط كثيرة غاية في التعقيد.
من الواضح بالنسبة لي على الأقل- أن هناك حاجة ماسة للتدقيق حول النقاط المشتركة بين المجموع/الجماهير/الشعب وبين النخبة الحاكمة، مع التركيز على قراءة ما لا يتفق مع تلك النقاط حين المقارنة بشريحة الناشطين. هذه برأيي- خطوة أولى لمعرفة أين وكيف ومتى ينبغي تركيز النشاط في حال الرغبة في صنع أرض مشتركة يقف عليها المجموع/الجماهير/الشعب وشريحة الناشطين في سعيها لتصبح جزءاً من هذا المجموع/الجماهير/الشعب.
أظن أن هناك حاجة الآن لإعادة قراءة المشهد. حاجة للخروج من عزلة ربع القرن هذه والنظر بعين لا تلونها الأحلام ولا تخاف نتائج القراءة الجادة على البداهات والمسلمات الراسخة في ذهن شريحة (تفترض) في نفسها الاستنارة والوعي و(تعطي) نفسها مهمة (قيادة) المجموع/الجماهير/الشعب إلى ما فيه مصلحته!
إن أسئلة من شاكلة: هل يريد الشعب دولة مواطنة وحريات ودستوراً يحمي حقوقه؟ و: هل يرى الشعب أن حريته مهضومة الآن. هل يرى الشعب أن تغيير هذا النظام أمر يستحق الموت لأجله؟ هل يكره هذا الشعب الحكومة الحالية؟ هل يكرهها لذات أسباب كره الباقين لها؟ هل سيختار الشعب إصلاح النظام أم إسقاطه لو كان في موقع الاختيار؟ الخ الأسئلة التي تبدو بديهية ومحسومة ربما لدى الكثيرين ممن يدخلون ضمن وصف (شريحة الناشطين)، إلا أن التعمق فيها هو كما أسلفت- الخطوة الأولى لفهم هذا الجدل القاسي.
الحاجة الآن ملحة أكثر للالتفات إلى مثل هذه الأسئلة والتعمق في فهم العلاقة بين مكونات المجموع/الجماهير/الشعب الداخلية، وبين الواقع في جدله وارتباكاته وفرصه الضائعة.
إنه الوقت المناسب في تقديري- فحركة التغيير دارت عجلاتها بسرعة مؤخراً وما عاد في عمر النظام الكثير، لذا نحن بحاجة لفهم كل جوانب واقعنا الحالي حتى لا نفاجأ بعد حين قريب حين إزالة الكابوس هذا؛ بأننا لا نفهم شيئاً، وأن هتاف هاتفٍ ما: (شريعة ولّا نموت.. شريعة قبل القوت) قد يجعل الملايين يتبعونه دون أن نفهم: لماذا؟
ـــــــــ
* استخدمت (شريحة الناشطين) لوصف أولئك الناشطين إسفيرياً أو خارجه في سعيهم لإسقاط النظام ممن يحملون رؤية (حديثة) تجاه الصراع مع النظام …الخ. يدخل في هذه الشريحة المنظمون في تنظيمات وأحزاب وغير المنظمين من الناقمين على النظام.
(أرشيف الكاتب)
أثر الفراشة – صحيفة اليوم التالي