تقول التسريبات إن التقارب الأميركي الذي جعل وزير الخارجية جون كيري ينزل من برجه العاجي، (ويتكرم) بالاتصال بوزير خارجيتنا علي كرتي، يهدف إلى (توريط) السُّودان مرة أخرى في أي شكل من أشكال الوحدة مع الشمال، توقف انهيار الدولة الجديدة وتعيد السُّودان إلى المربع الأول.. أعني مربع وحدة الدماء والدموع بعد أن أراحنا الله منها.
إذا كانت مجلة الايكونوميست البريطانية ذات المصداقية العالية، قد تحدثت عن أن عدداً من قُتلوا في حرب الجنوب الأهلية خلال شهرين من اندلاعها في 15 ديسمبر 2013 حتى منتصف فبراير 2014، زاد على من قتل في 22 عاماً منذ اندلاع الحرب بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والقوات المسلحة السودانية في 1983، وحتى 2005 فإن ذلك يكشف حجم الغُصة التي تقف في حلق أميركا أن السُّودان يتعافى الآن من حرب الجنوب الطويلة، التي أهلكت الحرث والنسل، وأرهقت البلاد وانحطت بالسُّودان وقزَّمته بين الأمم، بينما يغرق الجنوب في حرب توشك أن تقضي عليه وتمزقه إرباً.
لقد قالها حكيم الجنوب من قديم (لادو لوليك) إن الشمال والشماليين يقومون بدور (النشارة) بين أكواب الزجاج، فإذا أُزيحت النشارة يحطم الزجاج بعضه بعضاً، وذلك ما لم يفهمه الأميركان، وهم يؤيدون ويدعمون فصل الجنوب، ويظنون أن ذلك سيضعف الشمال وينشئ دولة قوية تابعة لهم، فإذا بالله العزيز يبطل كيدهم ويُذهب مشروع السُّودان الجديد الذي أرادوا تحقيقه من خلال الوحدة، ولما لم يتحقق بها عملوا على إقامته من خلال الانفصال، وفقاً للخطة (ب) التي أعلنها باقان أموم قبيل انفصال الجنوب للسيطرة على الشمال وتحطيم هويته الإسلامية وعزله عن محيطه الإسلامي.
في رأيي أن من حزنوا على انفصال الجنوب بسبب فقدان السُّودان لودرات البترول التي كان نصفها يدخل خزانة الدولة لم يصدروا عن موقف أخلاقي ذلك أنه ينم عن إنانية تستكثر على الجنوب التمتع بثرواته.
فقدت أثيوبيا بمساحتها الشاسعة وسكانها الذين يقاربون المائة مليون الإطلال على البحر جراء انفصال أريتريا عنها، بالرغم من أن أريتريا بمساحتها الصغيرة لا يتجاوز سكانها الأربعة ملايين، وها هي أثيوبيا تنعم بخيرات السلام بعد أن استدبرت الحرب التي عطلت مسيرتها وتحقق معدلات تنمية مدهشة، ذلك أن ما يتحقق بالسلام أكبر بكثيرٍ من مكاسب تتحقق بوحدة مأزومة بحربٍ تُهدر الموارد، وتُعطل التنمية، ولو كنا عالجنا شكل العلاقة مع الجنوب بعد الانفصال بصورة جيدة، ولم نرتكب تلك الأخطاء الكارثية، بما في ذلك عدم ترسيم الحدود، وعدم سحب قوات الجيش الشعبي من الشمال أسوةً بما فعلناه ونحن نسحب قواتنا المسلحة من الجنوب من طرف واحد، لما اندلعت الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي ولكان حالنا غير الحال.
إن رؤيتنا للعلاقة مع الجنوب استقيناها من قراءة متأنية لأخطاء تاريخية أُرتكبت في حق الشعبين، ولدراسة متأنية لتجارب أخرى اختارت فيها شعوب كثيرة الانفصال بدون أن تُراق فيها قطرة دم واحدة، ولو تأمل الناس في التجربة الروسية بعد انفصال دويلات الاتحاد السوفيتي بعد انهيار الشيوعية لرأوا كيف يمكن للدول أن تحقق بالانفصال ما تعجز عن تحقيقه بوحدة ملغومة مفروضة على الشعوب بدون رغبة منها، هذا فضلاً عن أن من ينكرون علينا وعلى أبناء الجنوب موقفنا من الوحدة ينسون أنه لا إكراه حتى في الدين فكيف بما هو دونه من خيارات؟!.
أهم من ذلك، فإننا ظلننا نردد كالببغاوات خدعة كبرى تتحدث عن (الوحدة في التنوع) بالرغم من أن الأصل هو الوحدة في التجانس، وكلما كان التنوع حاداً تعذرت الوحدة واشتعلت الحروب والصراعات، ولا يمكن لأحد أن يزعم أن التنوع أفضل من التجانس في تحقيق السلام، بالرغم من أنه يمكن للتنوع غير الحاد أن يحقق السلام لو عولجت علل النفوس من خلال ترسيخ المرجعيات الكابحة للنزاع، والمحققة للوئام، وهل من مثال أعظم مما فعله الإسلام بين المهاجرين والأنصار، وهو يحيل حروب الجاهلية إلى ذكريات أليمة تحكي عما يمكن للدين أن يفعل من تغيير ينزع الشر من النفوس المؤمنة؟، (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). صدق الله العظيم
الطيب مصطفى- الصيحة