صرخة برلمانية
في جلسة برلمانية عاصفة، أمس الأول، كانت سعاد حاضرة كالعادة، وكان صوتها يهدر، جلسات النقاش حول تعديل الدستور على أشدها، هنا انتصبت الدكتورة الجامعية من مقعدها وطلبت الفرصة، حصلت عليها وصرخت صرختها الثانية (وااا فقراه) حالة من الصمت طوقت البرلمان، وحُبست الأنفاس لكلماتها اللاهبة، ما توصلت له السيدة الثمانينية وبعيد بضع وعشرين عاماً في السلطة أن المشروع الحضاري لم يفض إلى دولة العدل والكفاية التي تنشدها، ما خلصت إليه سعاد في مقاربة بين الطبقات التي أفرزتها التجربة (نحن قاعدين خاتين يدنا في المويه الباردة وننتقد ونحن السبب في الفساد والفقر)، وأردفت بذات حرارة الأنفاس (دي بقّاقة ووجعة لو ما طلعناها حنموت، في ناس بياكلوا الديك الرومي وناس رجلين الدجاج وناس أم شعيفة ما لاقينها) ثورة ماما سعاد كما يناديها شباب التيار الإسلامي لم تقتصر على البرلمان وحده، وإنما خرجت بموجبها إلى الناس والتجمعات النسوية شاهرة هتافها، لكن الملاحظة التي لم يغفلها الكثيرون أن سعاد الفاتح منذ المفاصلة الشهيرة ابتعدت شيئاً فشيئاً عن العمل التنظيمي، آخر منصب تقلدته مستشارة لشؤون المرأة، وحتى حضورها في مؤتمرات الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني محض ملء لمقعد شاغر، لم تتقدم الصفوف وتقود تيارا إصلاحيا مثل الدكتور غازي صلاح أو حتى أمين حسن عمر، بل اكتفت بالفرجة على الأقل في الظاهر، وحتى النصائح التي تتبرع بها لقادة الدولة بين الحين والآخر يشوبها الخفوت الشديد، خلافاً لما عرفت به.
الانحياز للسلطة
الأستاذة الجامعية المثيرة للجدل اختصرت رهق المسير في مقعد نائبة برلمانيّة تصدع بالحق وتقتصّ للضعفاء، وقد فضلت البقاء بمعزل عن مظلة الحكومة، بالرغم من أن سعاد إصلاحيّة بالميلاد، إن جاز الوصف؛ صوتها المنحاز للاستقامة لم يتوقّف عن الهياج، لكنّها فضلت الصمت في الفترة الأخيرة، والعمل من الداخل، بتناسق مع الجماعة، كل ثوريتها وتمردها الخلاق صادره الزمان وطفأ جذوته، ولذا كان انحيازها إبان مفاصلة رمضان للقصر، ومع ذلك لم تطلها اللعنات، ثمة سر يكمن في تخيرها الموقف المجاور للسلطة. في حوار سابق مع (اليوم التالي) دافعت سعاد عن موقفها ذياك واعتبرت دمغها بالانتماء للسلطة موقف خاطئ، وقالت بالحرف 🙁 أنا لم انحز لرئيس ولا شيخ، أنا انحزت للإنقاذ ولبرامج الإنقاذ وليس لأي فرد، أنا ما بنحاز وما في فرد بيملكني، أنا إنسانة حرة ورأسي مرفوع في السماء).. كانت تلك مرافعتها التي ردت بها القصف الذي طالها من مواقع بعيدة، هي من البدريين في الحركة الإسلامية والحكومة بلا شك، بل أعرق من ذلك، فقد برزت صورتها في شريط فيديو ليلة توزيع المصاحف، كانت الوحيدة الشاخصة في تلك الليلة، تتذكر التفاصيل وتحكي (كان كل الإخوان موجودين وأنا الوحيدة من الأخوات). الغرض من الليلة مثار الجدل، حسب تفسيرها، هو اختيار نائب للحركة الإسلامية، وكان اللقاء مجمع تعارف بينهم، تلك الليلة شهدت صعود نجم علي عثمان كخليفة محتمل للترابي رغم صغر سنه وقتها، وقد كانت سعاد من شهودها الأحياء.
عطاء محدود
ثمة من يردد لماذا تحكي سعاد عن جراح الفقراء ولا تفعل شيئاً لهم.؟ هي في يدها القلم الآن، في الحقيقة لا نستطيع أن نزعم أنها تتحرك عبر منظمة فاعلة في المجتمع، أو تسكب الملايين لليتامى مثل السيدة سنهوري، ولكن من المعروف أن لديها منتدى أسبوعيا (كل يوم أحد) في منزلها تحضره العشرات من النساء، وتبذل لهم النصح، فقط النصح.! على المستوى الشخصي تبدو سعاد شديدة العطاء، ويدها دائماً تحت المخدة، أو في (مطبقتها)، هي تؤمن بالحديث النبوي: (خيركم خيركم لأهله) ولذلك هي بارة بأقربائها وأهلها.. تعود مرضاهم وتسأل عنهم وعن أحوالهم، واعتادت على ذلك كما يردد المقربون منها. من العبارات التي اشتهرت بها على سبيل النقد الذاتي، عبارة بدت قاسية على إخوانها عندما اعترفت بالقول: (ارتكبنا في الإنقاذ أخطاءً نستحق عليها قطع الرقاب). هي قلقة على الدوام ومشغولة بثورة اجتماعية تعتمل في الخفاء، ولذلك رفعت لإخوانها الشارة الحمراء بما أسمته (تضعضع وانهيار تجربة الإنقاذ) لجهة الانشغال بانتخابات الولاة وقالت: (الجاية حارة شديد وإذا لم ننتبه للحكاية دي حتتفرتق وتضيع من بين أيدينا) وهي بذلك ترمى إلى مخاطر جمة وتحديات تعتور طريق الإسلاميين.
صوت المساكين
أكثر من غضبة انتاشت البرلمان، مبعثها سؤال ظل يتردد باستمرار مستقصياً عن صوت المساكين في تلك القبة المغلقة، لكن سعاد تهز يدها وتعلن للناس كل الناس بأنها صوت المساكين والمفجوعين، يستفزها منظر السيدات اللواتي يتسولن على مقربة من الأسواق والعمارات الشاهقة وحتى البرلمان، وكذا طوابير (ستات الشاي) تمسح دمعتها وتتولى الحديث بالإنابة عنهم ( أنا أعمل مع المساكين، أنا ما قاعدة أعمل مع حاملات الدكتوراه، أنا مع المساكين والفقراء الكادحين والمتسولين والمتسولات) بل تذهب أبعد من ذلك حين تصور واقع البؤس والعوز (أقولها بالفم المليان، الناس تعبانة شديد، ولو بيدي الوزير والرئيس ونواب الرئيس ينزلوا للشارع يشوفوا الحاصل شنو، الأسعار مبرطعة، والناس أنفاسهم انقطعت في اللهث وراء لقمة العيش المافي أصلا)، لم تكتف بذلك ولكنها تزجي رسالة عاجلة للرئيس البشير في دورته الجديدة وتنصحه الاهتمام بالمساكين وما أسمتهم بـ(القاعدين تحت) وطلبت منه (أن يوفر ليهم سقفا تحت رؤوسهم، ولقمة كريمة ياكلوها، وموية نظيفة يشربوها، وفصل ما يقع على رؤوس أولادهم ومشفى للعلاج) على حد قولها. هذا هو برنامج سعاد للمرحلة المقبلة فيما يبدو، برنامج اقتصادي يحدق في هموم الأسر الفقيرة.
“يخسي عليكم”!
من هنا يمكن أن نتوصل إلى أن الدكتورة سعاد الفاتح ليست نائبة برلمانة وحسب، وإنما حالة جديرة بالتأمل، كثيرة الاحتجاج، كثيرة المواجع، تصدع بكلمة الحق ولو على نفسها، ولا يزال الناس يتذكرون عباراتها الداوية التي تصدرت الخطوط الحمراء للصحف، فعندما أجاز البرلمان في العام السابق قرضا ربويا بـ85 مليون دولار لم تجد ابن الحاج الفاتح البدوي ما تعلق به سوى عبارتها اللافتة للنواب الذين مرروا القرض (يخسي عليكم).!!
ورغم أن سعاد الفاتح امرأة من نساء الزمن القديم، شجاعة ودغرية، بخلاف أنها أيقونة نساء الحركة الإسلامية، سيما وأنها شهدت دهشة الإطلالة الأولى وانسلت كلوزات القطن دون أن تتمرغ في المطايب، في حضرتها الرئيس والوزراء وشيوخ الحركة الإسلامية مجرد إخوان، تحادثهم دون كلفة (يا عمر يا حسن الترابي يا علي عثمان) ومع ذلك فهي تقود ثورة من داخل البرلمان، بالطبع رئيس البرلمان وبقية النواب أو حتى الوزراء ليسوا سعداء بغضباتها، ولكنها لا تكترث لهم، فهل ستكتفي بالاحتجاج أم تنتقل إلى مرحلة أخرى تمسك من خلالها بخيوط المبادرة.؟
اليوم التالي
أ.ع