عثمان محمد الحسن: المخدرات الرقمية .. أوهام أم حقيقة ماثلة ..؟

بثت قناة MTV اللبنانية قبل أيام تقريراً عن المخدرات الرقمية، وانتشارها في لبنان، محذرةً من المخاطر المترتبة عليها، وانتشر الخبر المصور نقلاً عن القناة – عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إنتشار النار في الهشيم، وتباينت ردود الأفعال حول مضمون التقرير بين مؤيدٍ لما جاء فيه؛ ومكذب له معتبراً أن الأمر لا يتجاوز محاولة تحقيق الكسب الإعلامي، بل ذهب بعضهم لاعتباره أمراً تافهاً غير ذي جدوى!
بدءاً نشير إلى أن مصطلح المخدرات الرقمية ليس جديداً، بل يرجع إلى عشرين سنةً ماضية. ويقصد بالمخدرات الرقمية Digital Drugs تلك الملفات الصوتية التي توجد في شبكة الإنترنت وتحتوي على نغمات أحادية أو ثنائية يستمع إليها المستخدم فتجعل المخ يصل إلى حالة من التخدر تشبه الحالة التي تحدث تحت تأثير المخدرات الحقيقية. وما يقوم به المستخدم للدخول في هذه الحالة المزاجية هو اختيار جرعة موسيقية من بين عدة جرعات متاحة، تعطي تأثير صنف المخدر الذي يرغب فيه المتعاطي، وتحميلها على جهاز مشغل الأغاني المدمجة (أم بي ثري)، وسماعات للأذن، ثم الاستلقاء على وسادة، والاسترخاء في غرفة ضوءها خافت، مع ارتداء ملابس فضفاضة، وتغطية العينين، وإغلاق جرس التلفون، حتى ينصب التركيز على المقطوعة التي تسمع.
وبصورة أوضح وأكثر تفصيلا، فان الإذن اليمنى عندما تسمع نبضات صوتية بتردد معين تختلف بصورة طفيفة في التردد عن النبضات التي تستمع إليها الأذن اليسرى، فإن ذلك يؤدي لتحفيز جزء في المخ مهمته التمييز بين ترددات الصوت المختلفة، ومع تكرار العملية يبدأ هذا الجزء من المخ بإصدار تردد يعادل الفارق بين الترددين المذكورين وينتشر التردد الجديد في المخ مولداً شعورا بالاسترخاء والنشوة يشابه ما يحدث عند تعاطي المخدرات التقليدية، وهو ما يعرف بظاهرة النبضات الثنائية.
أشار بيان مشترك صادر عن المنظمة العربية للمعلوماتية والاتصالات، وجمعية المعلوماتية المهنية في لبنان والتحالف العربي لحرية الإنترنت، والتحالف اللبناني للإنترنت، إلى أن ” ما يسمى المخدرات الرقمية هي أمر مبني على تقنية قديمة تسمى “النقر بالأذنين”، اكتشفها العالم الألماني هنري دوف عام 1839م، واستخدمت لأول مرة عام 1970م في علاج بعض حالات الأمراض النفسية كالأرق والتوتر”. وأضاف البيان أنّ: “المخدرات الرقمية هي ذبذبات الصوت دلتا وثيتا وألفا وبيتا، وليس هناك دليل على أنّها تسبب الإدمان” .

كما تعالت بعض الأصوات المقللة من خطر هذه الموسيقى، مستندةً إلى اعتبارات متعددة، منها أن الأمر لا يعدو كونه فرقعة إعلامية وسعي نحو الإثارة والكسب الإعلامي من لا شيء، ومنها ما يقوله بعض هواة هذه الملفات، إنها لا تتضمن أية مواد محرمة ولم يثبت أي ضررٍ من استخدامها، ومنها أيضاً عدم وجود أدلة علمية وبراهين على وجود حالات إدمان للمخدرات الرقمية، بل ذهبت بعض الصحف الأمريكية إلى القول أنها لا تعدو كونها خزعبلات للتحايل على تسويق موسيقى رديئة للمراهقين.
إلا أنه وعلى الرُغم من تلك المزاعم، وعلى النقيض منها؛ فقد قدمت الخبيرة الأميركية في التأثيرات العصبية والنفسية (بريجيت فورجو) شرحاً فنياً للأثر الذي تحدثه هذه الأصوات، قائلةً: ” تعتمد المواد الرقمية على تقنية النقر في الأذنين؛ فتبث صوتين متشابهين في كل أذن؛ لكن تردد كل منهما مختلف عن الآخر، الأمر الذي يؤدي إلى حث الدماغ على توليد موجات بطيئة كموجات (ألفا) المرتبطة بحالة الاسترخاء، وسريعة كموجات (بيتا) المرتبطة بحالات اليقظة والتركيز”، موضحة أن المتلقي يشعر بحالة من اللاوعي مصحوبة بالهلوسة وفقدان التوازن الجسدي والنفسي والعقلي. وأضافت أن الاستخدام المفرط للأصوات المحفزة يمكن أن يؤدي على المدى الطويل إلى اضطرابات في النوم أو القلق تماماً كاستخدام المنشطات التي تستعمل في بعض الحالات المرضية كعلاج نفسي.
ووصف مستشار اللجنة الطبية في الأمم المتحدة، وطبيب الأعصاب (راجي العمدة) أثر هذه الموسيقى بقوله أنها: ” تُحدث تأثيراً سيئاً في المتعاطي، على مستوى كهرباء المخ؛ كونها لا تُشعر المتلقي بالابتهاج فحسب، وإنما تسبب له ما يعرف بلحظة الشرود الذهني”، مشيراً إلى أن هذه اللحظة تعد من أخطر اللحظات التي يصل إليها الدماغ؛ إذ تحدث انفصالاً عن الواقع، ويقل فيها التركيز بشدة، كما أن التعرض لهذا التغيير في اختلاف موجة الكهرباء في الدماغ وتكراره لا يؤديان إلى لحظات الشرود فقط، بل إلى نوبات تشنج.
ويبدو أن ما أثاره هذا الموضوع الخطير، يستلزم استصحاب الحقائق التي لا تقبل الجدال، وهي أن هذه الملفات قد انتشرت مؤخراً وسط الشباب في معظم أرجاء العالم العربي، وباتت كثير من الجهات الرسمية أكثر اهتماماً بدراستها خاصةً في لبنان والإمارات والسعودية وغيرها.
كما أن الثورة الإلكترونية وما أسفر عنها من أجهزة وتقنيات، قد استبدلت كثير من المفاهيم والأدوات والقيم إلى أخرى إلكترونية كالبريد، والكتاب، وتذكرة السفر، والحكومة، والمصارف، والتعليم، والتوقيع، والنقود، والعلاج .. كلها أصبحت إلكترونية وغيرها كثير. وأن الإنترنت، فضلاً عما أفصحت عنه من جوانب إيجابية أسهمت في تطور حياة الأفراد والمجتمعات، فقد ترتبت عليها جوانب سلبية خطيرة، تمثلت في نشوء وتطور وانتشار الجريمة الإلكترونية، ومكمن الخطورة هنا؛ أن الأطفال والمراهقين والشباب يلجون هذا العالم الافتراضي ويتفاعلون معه، داخل غرفهم وعلى مقربة من الأهل، الشيء الذي يستوجب المزيد من الانتباه من جانب الأسر، ومعرفة ما يطالعه أبناؤهم ويستمعون إليه وملاحظة أي تغييرات تحدث في سلوكهم، فقد تكون المخدرات الرقمية باباً يلجون من خلاله لتعاطي المخدرات التقليدية.
وتبدو الحاجة ماسة إلى جهود علماء مختصين في علم النفس والمخ والأعصاب لتقديم دراسات علمية حول حقيقة هذه الملفات الموسيقية الرقمية وما تحدثه من آثار لدى مستخدميها، للاستناد عليها في سن التشريعات المناسبة أو تطوير ما يوجد من نصوص لاستيعاب هذا التطور الخطير حال ثبوته علمياً.
ويجب الوضع في الاعتبار أن تضييق الخناق على عصابات الإتجار في المخدرات وملاحقة أساليبها المتجددة في الوصول إلى أطفال وشباب الأمة نصف حاضرها وكل مستقبلها والعقوبات الرادعة التي تصل حد الإعدام في كثير من الدول، كل ذلك قد يكون دافعاً لابتكار أسلوب جديد، يبدو مشروعاً ولا يعدو كونه استماع لملفات موسيقية، لكنه يحمل في طياته بذور الشر والدمار، مما يستوجب الانتباه والحذر .. فكل الحوادث مبداها من النظر .. ومعظم النار من مستصغر الشرر!

عثمان محمد الحسن
باحث دكتوراه في الجريمة الإلكترونية

Exit mobile version