من يتابع آراء مؤيدي ومنتقدي صفقة الشهر الماضي بين الدول الست وإيران حول برنامجها النووي، خاصة بين محللي المنطقة، يكون معذوراً لو اعتقد أنه صحا من نومة أهل الكهف ليجد أمريكا وقد تحولت إلى المحافظة الثانية والثلاثين في إيران، وأن أوباما أصبح (بعد ان انشق عن الإخوان المسلمين في مصر طبعاً) يؤمن بنظرية ولاية الفقيه، ويبشر مع أحمدي نجاد بعودة وشيكة للإمام الغائب. وهذه امور قد لا تكون مستبعدة لو أننا كنا بالفعل نمنا مثل أهل الكهف ثلاثمئة سنة وازددنا تسعاً. ولكنها في أوضاعنا الحالية محض تخريف.
في واقع الأمر، ورغم الضجيج والتراشق المصطنع، ليس هناك أي خلاف بين حكام أمريكا وإسرائيل حول ضرورة إخصاء إيران نووياً، أي نزع قدرتها التقنية على تصنيع السلاح النووي. وما يعتقده أوباما وحلفاؤه بين الدول الست هو أن إيران، خاصة بعد انتخاب روحاني، ستفعل ما فعله بشار الأسد وتسلم قدراتها النووية طوعاً قبل أن تجبر على ذلك قسراً. وهناك رأي أمريكي بأن فرصة دفع إيران للاعتدال قد ضيعت بسبب رفض إدارة بوش الابن التعامل مع الرئيس المعتدل محمد خاتمي، وأن هذا الخطأ لا يجب أن يكرر.
من هذا المنطلق فإن منهج أوباما لا يختلف عن أسلوب الخطوة خطوة الذي اتبعه ونظر له وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، وتمكن عبره من إقناع أنظمة مصر وسوريا بعقد صفقات سلام مع إسرائيل لم يكن احد يتوهم مثلها عشية حرب أكتوبر المجهضة. وقد جاء جيمي كارتر فأكمل المشوار بإقناع السادات بتوقيع اتفاق كامب دايفيد. وقد تبع ذلك فيما بعد ما سمي بالهرولة تجاه إسرائيل حتى كاد العرب يعثر بعضهم ببعض وهم يتزاحمون على أبواب رابين وبيريز ونتنياهو. ولم تكن إيران ببعيدة عن تلك الحلبة، حيث عقدت في الثمانينات صفقة سلاح سرية مع إسرائيل. وغير معلوم أين كانت تلك التعاملات ستمضي لولا أن إيرانياً غيوراً كشف (بتواطؤ مع المخابرات السورية) أسرار الصفقة فأعدم جزاء وفاقاً.
هناك اعتقاد في بعض الأوساط الأمريكية والإسرائيلية بأن صداقة إيران التاريخية يمكن أن تستعاد بسهولة، ليس أقله لأن قطاعاً واسعاً من الشعب الإيراني أصبح يتعاطف مع أمريكا والغرب كراهية في ملالي طهران وقم، إن لم يكن لسبب آخر. جدير بالذكر أن طهران كانت العاصمة الإسلامية الوحيدة التي خرجت فيها مظاهرة تعاطف مع أمريكا عقب أحداث سبتمبر 2001. وتحفل المواقع الإيرانية بمواقف تتناقض مع الخطاب الرسمي المعادي لأمريكا، هذا فضلاً عن مظاهر فتنة الشباب الإيراني بالمنتجات الثقافية الأمريكية رغماً عن أنف الدعاية الحكومية والحظر الرسمي. وقد سمعت من مفكر عربي كبير زار إيران في عهد خاتمي عن صدمته تجاه ما رآه افتتاناً بأمريكا يقرب من التوله في أفراد الحلقة المحيطة بخاتمي.
لسبب ما كان المرشد الحالي للثورة الإسلامية في إيران يعارض أي حوار مباشر مع الولايات المتحدة، ربما لأنه يعلم أن هذا منزلق لا يعرف مآله. فلم يحدث أن دخل طرف في حوار مع الولايات المتحدة إلا وكانت النتيجة هي اقتراب ذلك الطرف من الموقف الأمريكي، ولم يحدث العكس قط. ومن هنا يمكن التأريخ لتحول الصين إلى النهج الرأسمالي بلقاء ماو ونيكسون في عام 1972. كذلك يمكن البحث عن جذور سياسة غورباتشوف الانفتاحية في سياسة الوفاق التي ابتدرتها كذلك إدارة نيكسون-كينسجر وكان من مظاهرها مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا (المشهور بمؤتمر هيلسينكي). وكان من ثمار ذلك المؤتمر تحصين المعارضة (نسبياً) في دول المعسكر الشرقي عبر فرض آلية مشتركة لاحترام حقوق الإنسان.
من هذا المنطلق فإن نجاح مؤتمر جنيف بين إيران ومحاوريها الدوليين يعتبر الخطوة الأولى في هذا العناق الذي يصعب الفكاك منه. فقد لقيت الخطوة ترحيباً شعبياً لأنها خففت العقوبات، مع وعود بالمزيد. وأي عكس لهذه الخطوة وعودة إلى الوراء سيواجه بردة فعل عنيفة من الشارع الإيراني. وبالتالي ستكون إيران مضطرة لتقديم المزيد من التنازلات في الجولات القادمة، لأنها تعلم قوة التصميم الإسرائيلي ـ الغربي على إنهاء برنامجها النووي. وقد يرى المسؤولون أن من الحكمة التخلي عن الجانب المقلق من البرنامج مقابل صداقة الغرب، بدلاً من فقدانه عبر القصف ومعه المشآت الإيرانية، والدخول في حرب لن تكسبها.
مهما يكن فإن المرحلة الثورية من الثورة الإسلامية في إيران قد انتهت عملياً في صيف عام 1997، حين صوت أكثر من 70′ من الإيرانيين لخاتمي، وقبل ذلك للنهج البراغماتيكي لرفسنجاني. وقد تأكد هذا في انتخابات 2009 التي شهدت ثورة ضد الثورة، وهاهي تتأكد أكثر بانتخاب روحاني رغم الإجراءات الخرافية التي اتبعها المرشد وأنصاره لإقصاء كل إصلاحي من الساحة. وعليه فإن الوفاق مع أمريكا والغرب هو الخطوة الطبيعية لهذه المرحلة.
ليس من الضرورة أن تكون هناك علاقة تلازم بين الانفتاح الديمقراطي في إيران والتقارب مع الغرب على حساب توجهات إيران الثورية. ولكن سياسة إيران السابقة قد ارتبطت من جهة بالقمع داخلياً، ومن جهة أخرى وبالتعاون مع قوى لهاعلاقة تصادمية مع مجتمعاتها. وعليه فمن غير المنطقي أن تواصل حكومة ديمقراطية في إيران دعمها لبشار الأسد أو لكتائب الموت في العراق. وبالتالي فإن مثل هذه الحكومة لابد أن تغير تحالفاتها في المنطقة ودولياً.
لا يمكن حالياً التنبؤ بما إذا كان هذا المسار سيبلغ مداه في كامب دايفيد روحاني، أو أن القوى المحافظة ستستعيد زمام المبادرة وتعود إلى مسار المواجهة. ولعل الأرجح أن يحدث الثاني على المدى القصير، حيث سيعود مسار المواجهة، وقد يطاح بروحاني أو يحجم كما حجم خاتمي. وهذا بدوره سيؤدي إلى حرب في المنطقة ستخسرها إيران، ثم تسمح للمعتدلين باستعادة زمام المبادرة، ولكن بعد حين وبثمن باهظ.
[/JUSTIFY]
د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]