لم يكن عيداً عادياً في جوبا هذه المرة هكذا بدأ الصحفي كيدن جيمس توصيفه لما شهدته العاصمة الوليدة في هذا العيد . الاستثنائي كان في حضور ملك الجاز السوداني شرحبيل أحمد وإحيائه حفل هناك بل وقضائه العيد في الدولة المنفصلة عن السودان الأم . مركز نيكرون الثقافي بمدينة جوبا استقبل حفلات شرحبيل في اليوم الأول والثاني لعيد الفداء . شرحبيل بدأ سعيداً وهو يقضي عيده الأول في الجنوب . لكن السعادة تجاوزته لتحلق حول الوجوه التي اكتظ بها المسرح واستبد بالناس الطرب .
لو تعرف معنى الشوق
ولو تعرف معنى الشوق كان نزلت من علاك الفوق وكنت علمت أن الذي بيننا في السودان لمختلف جداً أو هكذا كانت هي الصورة المنقولة من مركز نيكرون الثقافي حيث أقيم النشاط برعاية من شركة الأجنحة للطيران . الحفل حضره لفيف من السياسين والوزراء لكن لم ينتبه أحد لدخولهم للقاعة فالكل كان على موعد آخر ومختلف, الجنوبيون الذين استقبلوا في ذات الصباح إعلان تأجيل مفاوضات الصراع المسلح بين قوات الحكومة والمنشقين عليها لم يكونوا على استعداد للاستماع إلى خطابات سياسية تعيدهم للمربع الأول وهذا ما فطنت إليه نائبة وزير الشباب والثقافة والرياضة الوزيرة جوزفين نافون التي وجدت نفسها مجبرة لاختصار كلمتها المكتوبة بأخرى مرتجلة رحبت فيها بالضيف العزيز وشكرته وهي تردد خلاص خلاص لإيقاف الاحتجاج الجماهيري (خلاص أنا عارف يوم دا ما تا كلام) لتترك الوزيرة المايكرفون لحديث الثقافة والإبداع باعتبارها لغة التواصل الجديد بين الشعب الواحد في الدولتين . أو كما قالت المذيعة ليمياء متوكل وهي تعلق على حدث الحفل الحدث (ونظل شعب واحد رغم السياج السياسي يجمعنا الفن وتفرقنا السياسة …نأتلف بحبنا وقبولنا كشعب لبعضنا البعض وتظل خطوط التماس وهمية مدى الحياة…وتظل الفنون رسل لخلق وشائج أعمق بين الشعوب لتنصيب نجوم نحبهم مدى الحياة ويبقون بداخلنا يوضح شلل وعجز السياسة تماما عن صنع نجوم بداخلنا نرنو لهم ونحبهم ولو اشتروها بالذهب هذا دور سفراء الفن فى كل مكان) وهنا يتفق معها الكاتب الصحفي جنوب السوداني أتيم سايمون حين يقول لليوم التالي نعم الفنون متجاوزة تماما للسياسة و للجغرافيا و التقسيمات و الحدود ، الفنون هي خلاصة الانسان و الجمال المتسامي فوق المرارات و الوقائع المؤسفة ، وهذا ينطبق على حالة دولتي السودان بل أنه تمثل الترياق المضاد لكل مرارات الماض
يا داخل مع دخول الغيث
المسرح الذي اكتظ بالحضور رغم قيمة التكلفة العالية التي تجاوزت ال75 جنيهاً جنوبياً في مكان وال 30 جنيهاً في مكان آخر لكنها لم تمنعهم الحضور وفي وقت باكر للاستمتاع بالحفل الذي أضطر البعض للعودة الى منازلهم بينما حضرها آخرون وقوفاً على أقدامهم شرحبيل الذي دخل إلى الساحة من بوابة الجمهور ولم يدخلها من البوابة الخلفية لم يكن الأمر ليمنع الجميع من التعرف عليه وهو يمضي ومن فوقه قميصه الأفريقي المزروع بأشجار المحبة التي كانت كافية لأن يقف كل المسرح لتحية القادم بالتصفيق والصفافير ويصعد هو لمسرح ممارساً فضيلة التواصل الإنساني بعيداً (الفرقة) التي لم تكن تعبر عن نفسها سوى في الاختلاف المحبب حين جاء أفراد الجالية السودانية إلى المسرح يتوشحون بياض جلاليبهم ويشاركون اخوتهم ذات المقاعد ويرددون النص الواحد ويتمايلون مع النيل في اتجاه التاكيد على أنه لن يغير مسيله أبداً . الحفل التي غنت فيها برفقة شرحبيل فرقة اورياب شكل أعضاء السفارة السودانية حضورهم في الصفوف الأمامية وهم يضعون حلم معالجات الاختلالات على عاتق الفنون وهم في قمة القناعة انها ستنجح في إصلاح ما أفسدته السياسة . .
الفكرة أننا مع بعض
شرحبيل الذي بدأ مندهشاً من الاستقبال الكبير الذي وجده هناك قال إن الرحلة ستكون البداية لرحلات قادمة إلى الجنوب . فالرجل لم يكن سوى امتداد لأذان تعشق ذات الألحان والموسيقى التي تشكلت في عمقها من التجربة السودانية وعمقها التاريخي وتركيبها الاجتماعي بدءاً من عبد الله دينق وعبد المنعم عبد الحي ورمضان زايد وتومات كوستي و الكثير الكثير من التجارب التي رفدت الساحة الغنائية والإبداعية في السودان بحسب اتيم سايمون . الذي أضاف أن علاقة خاصة تربط تجربة شرحبيل الإبداعية بالجنوب فقد مثلت تجربته واحدة من أقوى النماذج المتجاوزة للجغرافيا فقد بدأ ملك الجاز تجربته مع الموسيقى الحديثة و آلة الجاز مع طلاب مدرسة رومبيك الذي كان قد تم تحويلهم إلى الخرطوم بعد اندلاع الأحداث الأولى في جنوب السودان من أمثال اميل عدلان وريتشارد ماكوبي و الكثيرين وهي ما جعلت لزيارته خصوصية ظهرت في الاستقبال . وهو ذات ما كان سيحدث لو أن الراحل محمود عبد العزيز وضع أقدامه هناك . فمثل هذه الزيارات من شأنها إذابة كل جليد الاختلاف وهو ما يختصره سايمون في (عليه فأنا أجد أنه من الصعب تنزيل مقاييس السياسة في حقل الإبداع والفنون؛ لأنها لاتنطلي عليها على الإطلاق فالفنون تصلح كل ما أفسدته السياسة هي الترياق و الحل و البلسم الشافي لجميع تلك المرارات و الخيبات الكبيرة في دولتي السودان هنا وهناك.
ليل هادئ في قلب العاصفة
هكذا كان التوصيف الأخير لعيد شرحبيل في الجنوب وهو العيد الذي ينتظره الكثيرون أن تعود أيامه مع آخرين يضعون لبنة جديدة في بنيان المستقبل السوداني بعيداً عن جدل السياسة واختلافات أهلها التي لا تنتهي . فبالفنون فقط يمكننا أن نصنع البهجة في عيوننا وأن نفسرها كما نريد لأيامنا القادمات أن تكون .
اليوم التالي
[/JUSTIFY]