ظاهرة خروج النساء السودانيات للعمل في النظافة سادت الشوارع وغزت الأسواق بعد أن هجر الرجال المهنة وهرب منها الأجانب.
مكنسة أحلام وسلة مستقبل
بحوزة “عواطف” التي تُعتبر نموذجاً للمرأة المتحررة من كافه أشكال القيود النفسية والاجتماعية، حكايات تتقاسمها مع الناس والأرصفة، فبفضل ساعديها يتحقق للنظافة معنى تحكي عن خوضها تجربة (عاملة نظافة) قائلة: منذ عشرسنوات كنت أعمل في المنازل وبعدها خرجت إلى الشارع وعملت به بكل ثقة وقناعة، وعبرت ” عواطف ” عن فرحتها وكامل قناعتها بعملها، بات القدر الذي عبرت فيه عن رفضها القاطع لما تلوكه ألسنة الناس عن مهنتهم، لكنها ترى أن محاولة إقناعهم والحوارمعهم لتغيير آرائهم ووجهات نظرهم عن هذا النوع من العمل لا تجدي نفعاً، لذلك تفضل أن تعمل بصمت ودونما اكتراث للهمس الدائر.
فجرٌ جديدٌ
ما بين الإعجاب بالعمل ومزاولته, تعيش “عواطف” تحت وطأة نظرة المجتمع القاسية الذي لا يزال يرفض عمل المرأة في مثل هذه الوظائف والمهن، ولكن لا تأبه لذلك، فهذه المكنسة التي بيديها ورغم أنها مصدر صغير للرزق لكنها تحقق لصغارها بعض أحلامهم و تجعلهم يعبرون إلى مستقبل نظيف دون أن يمدون أيديهم إلى أحد.
مع بزوغ كل فجر جديد، ثمة برنامج ثابت لدى عواطف، فهي تبتدرعملها منذ الخامسة صباحاً قبل أن تتكدس المحطة الوسطى وتزدحم بالناس والسيارات، لذلك عليها تنجز مهمتها هنا أولاً، ومن ثم تنخرط في دوام حكومي إلى الثالثة عصراً.
وصمة اجتماعية جوفاء
خلال ساعات العمل تعيش عواطف بعض الحكايات المتناقضة، منها ما يدعو إلى الفرح ومنها ما يعكر الصفو تقول: في حالة رمي الأوساخ في الطريق أو بالقرب من مكانها المخصص يجن جنونها, وترتفع وتيرة عضبها, وسخطها على المواطنين، مشيرة إلى أن أغلب الناس يتعمدون فعل هذه (الحركات) ولسانهم ينطق (حافظوا على نظافة مدينتكم)، والبعض يرمي بالقوارير و الأكياس الفارغة من على البعد فيصبح الإثم مضاعفاً.
“عواطف” تشكو احتقار الناس وعدم إدراكهم لأهمية النظافة، ومثل هذه المشاكل كثيرة ولكن إيمانها بالعمل يجعلها صامدة، وعاشقة أبدية للمكنسة، تبعث رسالة مضمونها ضرورة التعاون بين الناس وعاملات النظافة حتى تصبح الخرطوم عاصمة نظيفة بالفعل لا بالكلام.
قلب نظيف يقاوم الانكسار
في ذات السوق وبنفس الحلم، مع اختلاف ظروف العمل تقول “هويدا عوض”كنت أعمل موظفه بإحدى المحليات وبعد الإعفاء خرجت للعمل في السوق، فلم أجد فرصة غير العمل في النظافة، وتضيف: العمل في السوق قد يكون مُحرجاً في بعض الأحيان خاصة عند يصادفك شخص تعرفه، ولكن الظروف والمسؤوليات الملقاة على عواتقنا تجعلنا نضع كل ذلك في كفة، والعمل في أخرى، وهذا ما يدفعنا للاستمرار في كسب عيشنا بالحلال. وأردفت” هويدا”: مهنة عاملات النظافة لا تقل ضراوة من ناحية النظرة المجتمعية السلبية إليها عن مهنة بائعات الشاي, والعاملات في المؤسسات الحكومية والخاصة، وأشارت إلى أن مشاكل هذه المهن من الناحية النفسية كبيرة جداً ومجهدة، و تحتاج لبنية نفسية من نوع خاص، وقلب قوي يقاوم الانكسار؛ لأن التعرض المستمر للاستفزاز والسخرية من الناس أمر صعب للغاية.
هويدا كشفت عن أنها أم لأربعة أطفال أجبرتها الظروف للعمل وردية ثانية منذ الخامسة وحتى العاشرة مساءً، فبعد أن تغلق الأسواق أبوابها تأتي لنظافة وجمع الأوساخ وأضافت: أنها تعاني من رش الماء على الأوساخ ما يصعب جمعها ويجعلها تتعفن.
تحقيق للشعار
الآن منتصف نهار ثاني أيام العيد، شد الجميع رحالهم مسافرين إلى الولايات لقضاء العطلة بين أهلهم، وها هن عاملات النظافة وحدهن يعملن في هذا الفراغ العريض يجمعن جبالاً مكدسة من النفايات التي تركها المتسوقون قبيل العيد هنا.
إنهن نخبة تستحق التكريم، وتستحق التشجيع، نخبة لا ينبغي أن نضعها في في سلة المهملات ولا نتناسى دورها المهم في حياتنا, إنهن فئة مؤثرة علينا، ولولاهن لصارت الخرطوم عاصمة بلا ملامح.
حب العمل جعل الكثيرات منهن يحملن مكانسهن لتحقيق شعار( معا نحو عاصمة نظيفة ومتحضرة).
إنهن عواطف ورفيقاتها، التقيتهن بينما كن يأخذن استراحه نهارية يناقشن خلالها كل ما يخصهن وما يدور حولهن، يفعلن ذلك؛ كي يخففن على أنفسهن ضغط العمل وضغط المجتمع، بجانب الترويح عن أنفسهن من قيظ ظهيرة الخرطوم الحارقة.
والناس ينعمون بالعيد، ها هن يعملن بدأب لاستعادة عاصمة اختفت ملامحها خلف أكوام النفايات، بينما في خاطرهن بعض الأمور الطفيفة أن يشاهدهن المواطن بعدم رمي الأساخ في أي مكان، وكف المجتمع لسانه عنهن، وبعض أمل في تحسين أوضاع العمل وزيادة الرواتب.
اليوم التالي
[/JUSTIFY]