1
*زارني أمس بالفندق الذي أقيم فيه بحي العزيزية بمكة المكرمة التي أقصدها لأداء فريضة الحج، مجموعة من حجاج قطاع النيلين يجأرون بمر الشكوى، ويطالبون بتصعيد مأساتهم وقصة هضم حقوقهم للرأي العام، فحاولت بث الطمأنينة في قلوبهم وقلت لهم إن الصحف في السودان اهتمت بالأمر تماماً، وإن (اليوم التالي) أفردت اليوم (أمس) مساحة مقدرة لما تعرض له حجاج الخرطوم بقطاعيهما (أ ـ ب) ومعاناتهم مع تقليص وجبة وتقديم (وجبة الأرز المطبوخ بإدام يصعب أكله)، فإذا بأحد الزائرين المتذمرين يقاطعني قائلاً: “نحنا لقينا رُز ناس الخرطوم الما مفهوم دا وأبيناهو.. يا أستاذ نحنا نزلونا في فندق مويتو قاطعة، مشينا غسلنا وشوشنا واتوضينا لصلاة الصبح من الجامع.. رضينا بالفول وهسه الفول ما لاقينو.. البعثة كلها ما فطرت بتصدق كلام زي دا؟، والغداء من هسه قالوا مافي دبروا حالكم.. شالوا قروشنا وأدونا الجوع” ..!
*نهضت سريعاً من مكاني، ووعدت وفد حجاج قطاع النيلين بأنني بعد عشر دقائق تماماً سأكون معهم في فندقهم الذي لا يبعد عن مقر إقامتي سوى أمتار معدودة ..!
* مجموعة من المشاهد كانت حصيلة زيارتي لقطاع النيلين (130) بما فيهم حجاج النيل الأبيض الذين فضل معظمهم الجلوس تحت ظل شجرة كبيرة أمام الفندق لمواسأة بعضهم البعض.. قابلت في جولتي حاجاً متذمراً من قطاع الخرطوم، وآخرين من قطاع الجزيرة مندهشين لتغير الأوضاع بعد وصولهم لمكة إذ كانت حالهم في المدينة أفضل، وبعضا من حجاج النيل الأزرق (ممكونين وصابرين)، هالني حجم عدم التقدير واللامبالاة وأكل أموال زوار بيت الله الحرام بالباطل، لأخرج من الجولة بحزمة من المشاهد المؤلمة أحاول رسمها في صورة قلمية (ومن رأى ليس كمن سمع)..!
2
مشهد أول: “العندو زول بدبر حالو”
* “يا ولدي الناس ديل قول ليهم خافوا الله في حقنا.. نحنا قروشنا سلمناها ليهم وهسه قاعدين بدون أكل نضرب تلفونات لي معارفنا عشان يجوا يساعدونا.. ديل ما بخافوا الله في حق الناس.. لكن نحنا نستاهل فكينا قريشاتنا من تحت يدنا وبقينا نفتش في اللقمة”!
– تلك كانت إفادة الحاجة علوية عمر الفكي من قطاع الخرطوم التي قابلتها أمام مطعم (كنتاكي) بشارع العزيزية العام بصحبة ابن أختها (علي السر عوض) المقيم في مكة، والذي هب لنجدة خالته بعد أن علم منها سوء الحال، وعلق على حديث خالته متساءلاً: “العندو زول هنا بدبر ليهو أمورو.. لكن الرجال والنسوان الكبار الجوا من السودان ودفعوا قروشهم ذنبهم شنو”..؟؟
3
مشهد ثانٍ: في الجزيرة “نسمع بطنا”!
* “يبدو أن المطيع في وادٍ والحجاج في وادٍ آخر”! عبارة همهمت بها حابساً ضجري، والحاج عثمان عبدالله من قطاع الجزيرة يشكو لي سوء وتقليص الوجبات والحيرة ترتسم لوحة دامية على قسمات وجهه، وكل ما باستطاعتي فعله لـ(عم عثمان) محاولة إيصال صوته المخنوق بعبرات الأسى إن كان هناك مسؤول يسمع ويحاسب أو مدير يتحرك ويتابع، وبالطبع ليست لدي إجابة عن سؤال الحاج المكلوم الذي قال لي بنقاء روحي تنهمر له الدموع وتنفطر عند سماعه الأفئدة: “الناس ديل بسووا فينا كدا ليه؟.. الواحد سمع صوت بطنو من الجوع.. نحنا جينا لحاجة غلط ما جينا قاصدين بيت الله ورمينا كل حاجة ورانا وصفينا نيتنا؟” ..!
– ويا ليت (مطيع) لو كان مع الحجاج في وادٍ واحدٍ، صيغة مختلفة لذات المعنى والعبارة التي بدأت بها همهماتي لحظة وقوفي أمام الحاج عثمان عبد الله الذي وجدته مستنداً على حائط بالقرب من مسجد ليس ببعيد عن الحرم، ولم أسأله عن وجهته وإن كنت أدرك أن الفضول يكاد ياكل أطرافكم لمعرفة (من هو مطيع الذي كررت أسمه مرتين؟)، والإجابة لمن لم يقرأوا تصريحات الرجل فهو مطيع مدير الإدارة العامة للحج والعمرة الذي قال لوسائل الإعلام أن كل الترتيبات تمضي على (أكمل وجه)، لتمد الوقائع لسان السخرية مؤكدة أن للتصريحات ألف لسان وقناع بينما لا يمكن أن يكون للحقيقة (أكثر من وجه).
4
* مشهد ثالث: “الموية قاطعة”!
* اعتصرت الغصة حلق الحاجة رقية عواض وهي تحدثني بحُرقة حشا عن حجم المعاناة التي تعيشها وحجاج قطاع النيل الأبيض، ولم تُفلح رقية في إكمال حديثها لأن (آمنة سليمان وكلتوم إبراهيم حامد) من قطاع النيلين لم تستطيعا صبراً على (بت حجتهما) حتى تكمل شكواها، وقامتا بتصعيد أصوات الاحتجاج بلهجة حادة، معترضتين على تقليص الوجبات خاصة وأن عددا كبيرا من رفيقاتهما لا يحملن معهن مالاً للإعاشة بعد أن قمن بدفع قيمة إعاشتهن مُقدماً ولم يحصدن غير الجوع، وبينما الحديث يسير في هذا الاتجاه وجميعنا نقف أمام فندق البعثة تدخلت (الحاجة هدية إدريس) قائلة: “الأكل خليناهو هين، معقولة يجيبونا لفندق مويتو قاطعة نمشي نفتش الوضوء وغسيل الوش في الجوامع، وكمان هنا الموية بتقطع ولا نحنا جابونا يلعبوا بينا؟.. استغفر الله”.!
5
مشهد رابع: شجرة “الزهاجة”!
* حالة الاستياء المسيطرة على مجموعة من (حُجاج كوستي) الواقفين بالقرب من شجرة ظليلة تصلب عودها شامخة أمام الفندق الذي يقيمون به شاهدة على معاناتهم ذكرتني بـ(شجرة الزهاجة) الشهيرة التي تقف أمام المسرح القومي بأم درمان لتلعب (دور البطولة) في كل عرضحالات ومآسي الدراميين الذين سقوها من أوردة مشاكلهم فما بدلت اخضرار أوراقها يوماً رغم تكاثر المحن وتقادم السنين.. ها هو (الحاج محمد أحمد فضل المولى) من كوستي الذي لم يتجاوز الخامسة والأربعين من العمر يقف حائرا لا يدري ماذا يفعل و(الفطور ما جابوه والغداء مهدد بذات المصير)، بينما يضرب (الحاج الريس آدم حماد) كفاً بكف وهو يعيد على مسامعى سيناريو مشاكل سردها لي الكثيرون مع اختلاف المفردات وتفاوت حجم الإشكالات من حاج لآخر، إلا أن رواية (الحاج خاطر السيد) – التي لم أستطع معرفة مدى صحتها – جذبت اهتمام الواقفين معي تحت الشجرة إذ أن ندرة المعلومات هناك لا ينافسها إلا شُح الوجبات، وتحركت الرؤوس يمنة ويسرى وخاطر يقول بثقة: “تعرفوا القصة وما فيها الناس ديل مشوا شالوا قروشنا في الخرطوم.. ما أدوا (متعهد الطعام) قروشو والزول قال ليهم لو ما أديتوني قروشي ما بحيب ليكم ولا وجبة” ..!
6
مشهد خامس: حرام عليكم ونحنا خجلنا ليكم..!
* داخل فندق قطاع النيلين المتواضع راقبت حركتها.. الكبرياء يكسو وجهها السوداني بسمرته الغنية.. (الشلوخ المطارق) منحوتة وشم عزة على خديها.. تجاوزها الستين عاماً لم يمنعها من التحرك في بهو الفندق بخفة.. لمحتني محاصراً بعدد كبير من الحجاج فاتجهت نحوي بثقة وقوة شخصية ذكرتني تماماً أمهاتنا الكبار من (نسوان رفاعة) اللائي تلقين التعليم على يد الشيخ بابكر بدري وطالباته الأوائل.. لم تتداخل لتقاطع أحداً، وما إن سنحت لها فرصة للحديث حتى مدت يدها لمصافحتي من وراء ثوبها، وقالت بصوت ثاقب النبرات وكامل الحشمة: “يا هيثم يا ولدي بركة الجيت تسمع من الناس براك.. أنا حاجة سكينة بشوفك في التلفزيون وعارفاك زول واضح.. عيب نتكلم في الأكل ونحنا في بلدنا خليك ونحنا جينا لحج بيت الله الحرام.. أنا شخصياً اتصرفت واولادي ما قصروا الله يديهم العافية ما خلوني للمهازل دي.. لكن معانا نسوان كبار ما عاملات حساب الجهجهة دي.. قول ليهم نحنا عينّا ملانة ما بنتكلم في الأكل وبإذن الله ما في زول بموت من الجوع لكن العملوهو ناس هيئة الحج دا أكبر عيب.. قول ليهم اختشوا شوية حرام عليكم.. ونحنا النسوان الكبار خجلنا ليكم”..!
7
* أخيراً: من وين نجيب ليكم خجل؟
* اختزلت (حاجة سكينة) فصول المأساة، واختصرت الأزمة القبيحة في كلمتين قالتهما وهي تمسك مسبحتها بين أصابع يدها اليمنى وتنصرف غير آبهة.. “خجلنا ليكم” كانت رسالة حاجة سودانية يملأ جوانحها اليقين بعد أن عانت وقطاعا عريضا من الحجاج الأمرين.. ولكن تبقى الأسئلة النازفة عاماً تلو الاخر: “ألا يخشى هؤلاء من غضب المولى سبحانه وتعالى ودعوات أناس مظلومين مقهورين قصدوا حج بيت الله الحرام في هذه الأيام المباركة؟.. هل من مسؤول يحاسب أم أن هيئة الحج والقائمين على البعثات من حقهم أن يفعلوا ما يحلو لهم؟.. يشكو الحجاج في كل عام وإن لم يستفد مدمنو الفشل والإخفاق من الدروس أفما آن للخجل أن يبلل الرؤوس”؟
اليوم التالي
خ.ي