بين الفلاتية والكابلي: القضارف.. حين يلتقيك البيت القديم

[JUSTIFY]الحزن دفق من ماء قديم لا تطاله كل أرض، لكن ثمة أراضي ومدن تعرف كيف تغسل بالدفق المتجدد حياتها. هنا القضارف (مطمورة السودان).. ترى ما الذي يختفي تحت الأرض؟

يا سمسم القضارف الزول صغير وما عارف. عدم المعرفة كانت هي حالنا التي كشفتها عائشة موسى أبكر أو عائشة الفلاتية بصوتها لنجد أنفسنا مجبرين على تجاوز الصوت من أجل محاولة نقل الصورة.

القضارف بالتعدد المميز لسكانها من شجرة (الجنقو) في قلب السوق عبورا بشارع المليون زول وفي المنطقة التي تحتضن الصومعة من حي الأسرى وصولاً إلى ديم النور وديم حمد بصالون أبوسن واضح الملامح، وقوفاً هناك في حي الناظر بكر، صخب السوق بتفاصيل الناس وحكاياتهم.

لكن القصة تبدو في أن الكابلي مر من هنا ولا يزال منزله موجوداً شاهداً، السبيل الذي يروي ظمأ العطشى يحكي آخر بأن الجابري أيضاً كان هنا ولكن الهناء يبقى في عملية البحث عن صاحبة الصوت الطروب عائشة الفلاتية.

يجو عائدين جنودنا المسافرين

يناغمنا الصوت ونحن نغادر في رحلة البحث عن مهد صباء عائشة. الطريق هناك من ديم بكر يبدأ من السوق الصغير بحسب توصيف أهالي المدينة.. ثمة (مظلات) ودكاكين تحت التشييد، كشك الأقاشي مغلق في انتظار حضور المساءات، في جملون الخضار ثمة رجل في نهايات الخمسين من عمره يحيينا بحميمية سودانية تعبر عن ذاتها، يصمت حين نسأله عن منزل عائشة الفلاتية في القضارف قبل أن يعود عمر سليمان للإجابة بعبارة: “ياخ الليلة إنتو يا ناس الإعلام جبتو كلام عجيب وذكرتونا زمناً براه”.. يلملم ما تبقى من بضاعته وينادي على آخر تسبقه عبارة (أرح).

ركشة لحمل البضائع كانت هي وسيلتنا لقطع طرق حي ديم بكر المتعرجة.. السماء كانت ألطف بنا حين دست شمسها تحت الغيوم ومضينا.. التوصيف كان يتم باستخدام تضاريس الخور الفاصل في الحي. توقفنا أمام مجموعة من الشباب ليرشدونا في اتجاه آخر، مضينا لنتوقف في إحدى ورش النجارة، ثمة متطوع آخر لكنه يعرف المكان بالضبط، أشار إلى أحد البيوت قائلاً: “هنا عاشت عائشة”. لم يقف عند حد حسم الجدل وإنما أصر على تأكيد فرضيته بقيادتنا نحو منزل آخر لنلتقي برجل في سبعينيات العمر سبقتني إليه الملاريا وتجمعه مع (الفلاتية) رابطة الدم.. ببشاشة السودانيين استقبلنا واعتذر عن عدم قدرته على مرافقتنا لكنه أكد على فرضية (النجار) مؤكداً أن المنزل الذي طال التخطيط بعض جنباته ودفع بشجرة النيم إلى الخارج، كان هو بيت عائشة ووالدها فكي موسى، والذي وصفه بأنه رجل كان يمثل أداة الضبط والربط في الحي في الزمان السابق وأن كلمته كانت مسموعة حتى عند الناظر ولا مناص سوى الالتزام بها.

الرجل الذي اختار له مكانا أمام القطية وجلس فيه حكى لنا التفاصيل الأولى وبدايات عائشة حين قال إن الحفلة لم تكن لتصل إلى قمة الطرب دون مشاركتها في الغناء برفقة أخريات، قال إنها كانت تفعل ذلك بدون مقابل ولم تكن وصلت بعد لمرحلة الشهرة.

عائشة ـ التي كانت تغني بالرطانة أيضاً ـ لم تمكث كثيراً في القضارف وفي ديم بكر وغادرتها إلى الخرطوم فانقطعت علاقتها بالبعض وإن كانوا ما يزالون يحملون لها ولوالدها الكثير من التقدير والتبجيل.

تبدو تفاصيل البيت من الخارج مشابهة لتفاصيل المنازل الأخرى في الحي، أمامه شجرة نيم وارفة وفي داخله ثلاث قطاطي، يتمدد في مساحة تجعله يربط بين الشارعين كما أراد له المخططون أن يكون، ودون أن يعلموا أن من هذا المنزل خرجت من منحت بصوتها الارتياح لكثيرين وكثيرات.

ونحن نغادر لاحقتنا عبارة عم عمر وهو يعود إلى نقطة انطلاقه في السوق: “أها عائشة ماتت حتسووا شنو لأهلها؟” وككثير من الأسئلة يبقى السؤال بلا أجابة مثل موت ما تركته الفلاتية تماماً.

الكابلي أسيراً

في حي الأسرى المرتبط بتاريخ المهدية في السودان وفي المنطقة بالتحديد وأمام شارع أسفلت، ثمة منزل طلي بلون (بيج) تغير بفعل حراك الطبيعة وانهمار الأمطار، تقف أمامه (مزيرة) في الناصية، تماماً يخبرني رفيقي في الجولة الإعلامي محمد كبوشية أنه في هذا المنزل كانت تسكن والدة الفنان عبد الكريم الكابلي الحاجة صفية وقضى الكابلي نفسه أياماً من عمره هنا قبل أن تنتزعه الخرطوم والمشغوليات.. المنزل مع حركة الركشات والعربات التي تعبر في الأسفلت يردد مع الكابلي أنشودة الهجرة والاغتراب رفيقة الكابلي بأمريكا (منو الزيك ولد واستالد الأولاد منو الزيك بجيبهم عشرة انداد منو الزيك غابات وسهول ونيل مداد ومنو الزيك أصل موروث من الأجداد) قبل أن تنتهي الأغنية عند نص آخر..

القضارف يجيد أهلها صناعة حياتهم اللحظية، يزرعون الفرح في انتظار أن يحصدوا ذات الثمرة.

اليوم التالي
خ.ي

[/JUSTIFY]
Exit mobile version