بين حب الماء والتحسّس منه

[JUSTIFY]
بين حب الماء والتحسّس منه

كانت مدينة كوستي في السودان الأوسط مدينة جميلة ونظيفة، وبها سوق نشط تتدفق إليه المحاصيل الزراعية من المناطق والأقاليم القريبة، كما أنها أكبر ميناء نهري في السودان، حيث تبدأ منها وتنتهي فيها حركة البواخر النهرية من وإلى وصارت اليوم جمهورية جنوب السودان، ثم تعرضت هذه المدينة للقتل العمد منذ منتصف الثمانينيات، وشيئا فشيئا تحولت إلى «قرية» مترهلة.. حتى الثمانينيات كنا نحن سكان المدينة نكاد نعرف بعضنا بعضا بالاسم، وكان من الشخصيات المميزة في المدينة شاب يُشاهد في الأمسيات في المقاهي ودار السينما بكامل قيافته وأناقته، وسر تميزه هو أن الجميع كانوا يعرفون أن مهنته هي «عربجي»، أي سائق عربة كارو يجرها حصان تقوم بنقل الأمتعة والبضائع في عصر ما قبل الشاحنات الصغيرة، وحمل الأشياء على الظهر والأكتاف جزء أساسي من عمل العربجي، ومن ثم فهو يرتدي ملابس مبهدلة تكون عادة مشبعة بالعرق، ورائحة الأشياء التي يحملها على كتفيه أو ظهره، وكان من اللافت للنظر أن حصان صاحبنا كان أكثر أناقة منه في ساعات النهار، فقد كان يعنى بتغذيته ونظافته،.. ولكن ومع هبوط المساء، كان هذا العربجي يعود إلى بيته حيث يقدم للحصان وجبة المساء ثم يستحم ويتعطر ويرتدي فاخر الثياب لقضاء المساء مرفّها عن نفسه بعد عناء يوم شاق، وكان أهل المدينة يحبونه ويحترمونه، كل ذلك لأنه كان لا يتأفف من التعرق والاتساخ أثناء ساعات العمل، ثم يتحول إلى شخص من أكثر أهل المدينة حسنا في المظهر والرائحة.
جاء في صحيفة إيرانية إن السيدة الإيرانية مينا طلبت الطلاق من زوجها لأنه لم يستحم طوال عام كامل وإنها وعيالها ما عادوا يطيقون رائحته، وأبلغت مينا المحكمة أن زوجها لا يقوم حتى بغسل وجهه عند الاستيقاظ من النوم صباحا.. ومفهوم ضمنا أن هذا الرجل لا يصلي ولا يعاشر زوجته، فهذه وتلك تتطلب الغسل والاستحمام.. حكاية السيدة مينا مثال كلاسيكي لعقلية الرجل الشرقي الذي يعتقد أن النظافة والتعطر والأناقة واجب الزوجة،.. فتجد رجلا يؤدي عملا يدويا شاقا يعود إلى البيت، وملابسه وكأنها صنعت من الكرتون من فرط التشبع بالعرق، وأول ما يصدر عنه عندما تستقبله زوجته هو: ريحتك ثوم وبصل!! هي عليها أن تكون «حاجة تفتح النفس» وهو لا يهمه أن رائحته ومنظره يسدان النفس! ومن قرأوا مقالاتي على مدى السنوات الماضية ربما يذكرون تجربتي المؤلمة مع «عدم الاستحمام» طوال 12 يوما عندما ذهبت إلى لندن للمرة الأولى كطالب، وأقمت في بيت للشباب كانت الحمامات فيه بلا أبواب، وكان المقيمون في ذلك البيت ينتظرون دورهم في الاستحمام بالاصطفاف عراة وهم يتسامرون، فصحت فيهم: هل نحن في لندن أم في بابوا غينيا الجديدة؟ وربما تذكرون أنني كتبت عن تجربة في سيارة تاكسي كانت سببا مباشرا لقراري الحصول على رخصة لقيادة السيارة، وكنت وما زلت أحس بأن قيادة السيارة هي أثقل شيء على قلبي.. كان سائق التاكسي مثل ذلك الزوج الإيراني يعاني من «حساسية الماء».. وكانت رائحة العفن التي تشبعت بها سيارته توحي بأنه يستخدمها في نقل جلود التيوس بعد أسبوع من ذبحها.. ذبحني الرجل بنتانته.. وكثيرون منا يتأذون في صلوات الجماعة من مجاورة أشخاص يدخلون المساجد دون أن يكونوا قد استخدموا الماء لعدة أيام في غير الوضوء.. والنظافة لا تقتصر على غسل الجسم والسواك، فكثيرون لا يعرفون أن نظافة اللسان واليد أهم من نظافة الجسد فيصدر عنهم كلام وسخ وترتكب أيديهم أفعالاً أكثر وساخة… بينما تفوح روائح العطور الباريسية من أجسادهم!
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]

Exit mobile version