الطاحونة .. عيشة عيشة مضمونة

[JUSTIFY]
الطاحونة .. عيشة عيشة مضمونة

قرأت تحقيق لصحيفة السوداني عن أزمة الخبز التي تفاغمت في الايام الفائتة، رصدت فيه عودة (طيبة الذكر) صفوف الانتظار الطويلة أمام الأفران .. الله يطراهو بالخير (صف الرغيف) ونضّر الله تلك الايام التي كانت تحض المواطنين لفعل الصالحات، فلم يكن ايامها مواطنا يغيب عن صلاة الفجر حاضرا حتى يحفظ مكانه في صف العيش .. دنيا دوارة !!
المهم تقول الصحيفة ان عودة تلك الصفوف قد دفعت البعض للعودة ايضا للخلف دور – إلى طواحين الدقيق البلدية للاستعاضة – على طريقة (النسى كسرتو تاه) عن فقد الرغيف بـ (الكسرة والقراصة والعصيدة ) ..
تقول الصحيفة ان عودة المواطنين الجبرية لـ الطاحونة قد أنعش سوق الطواحين وأدى في بعض الأحيان إلى زيادة أسعار الدقيق، مع العلم بأن اصحاب الطواحين قد رفضوا الاتهام بأنهم قد استغلوا ظروف ندرة الخبز وزادو الأسعار، وبرر احدهم الارتفاع الذي حدث بأنه في إطار الزيادات التي طرأت على أسعار كل السلع وأضاف :
يعني أسعار القمح والعيش بس الزادت ما كلها مولعة ؟!!
وان لم ينفي بانه وزملاءه استفادوا من الأزمة بسبب الانتعاش وارتفاع المبيعات التي تضاعفت خلال الأيام الماضية ..
يا أخواني خلوهو يتنعنشو يوميين مش اهلنا قالوا (البلقى الهبوب اليضري عيشو) ؟!!
سبحان الله .. عندما تحدث وزير المالية بعد كارثة الانفصال عن ضرورة عودة الحريم لصيجان العواسة قدمت من هذه الزاوية رؤية فلسفية لعلاقتنا نحن السودانيين بالعيش قلت فيها:
كان العيش هو مصدر قوتنا الرئيس منه نصنع الكسرة والعصيدة لعموم أهل البلد، وكانت لنا فيه مآرب أخرى، فمنه تخرج الفروكة والمديدة وأم ناريين لذة للشاربين والشاربات خاصة لمن ارادت الاعانة على الرضاع أو كنز الشحوم فوق الجضوم والحشا الكان مبروم، ومنه تصنع العروكة والدرداقة والدلكة لطالبات النورة والنعومة الهاربات من اخشوشان الجفاف والتصحر، ومنه تستخرج صهباء المبتلين من العامة والمساكين، وكناية (أرقد يا عيش أنا جرابك) التي كانت تخرج من افواه (الشبعانين)، مع ارتفاع الابخرة إلى العقول وانتفاخ البطون جراء التمسحة، عندما يتحول العيش من خانة طيبات المطامير إلى خانة أم الخبائث المشدودة في المخامير ..
(مطمورتك تكيل للخالة والعمات) أعظم شكرات الرجال كانت تأتي من كرم بزل العيش المخزون في المطامير لذوي القربى واليتامى والمساكين، ولمعزة ذلك العيش وغلاوته على النفوس شبهت به المحبوبات المدسوسات في الخدور فقيل فيهن (شن تشبه بلا العيش الداسنو في بطن المطامير) ..
حتى البطر ورفس النعم صاغته الحجوة الشعبية في حكوة ذات دلالات عميقة بطلها الفيلسوف (جحا)، عندما حصد وابنه محصولهما من العيش وجمعاه في المطمورة، ثم صنعا منه وجبة هنية اسرفا على نفسيهما بالاكل منها حتى اتخمت البطون، فما كان من (جحا) مدفوعا ببطر الشبع إلا أن طلب من ابنه ان يعمد إلى المطمورة ويقوم بحرق ما فيها من العيش، لمظنة انهم شبعا شبعة ليس بعدها جوع، ولكن مرت الساعات سريعا وهضمت البطون ما دخلها ثم قامت تطلب المزيد، وعندما قرصهم الجوع وكركرت الاحشاء تحنانا للطعام، إلتفت (جحا) إلى ابنه وطلب منه على استحياء أن يذهب لـ (ينكت) رماد المطمورة عسى ولعل ان يجد فيه حبيبات عيش يقمن أودهم ..
هناك غلوطية صيغت في شكل اهزوجة كانت ضمن مسابقة للصغار قبّال زمن، استلفت لسان (الكسرة) لتحكي نيابة عنها معاناتها من التهميش والنكران الذي رمتها به ربات البيوت بعد ان كانت منهن قر(قريبة) .. تشكو الكسرة وتقول (أنا زعلانة من الرغيفة أنا أحلى وكمان رهيفة)، ثم تميل للشكوى من الهجران بالقول (إلا الناس نسوني خلاص وحتى الصاج غطاه عجاج) .. تذكرت تلك الاهزوجة عندما تبارى العيال في حكي النكات الخفيفة فدخلت عليهم بـ (كان في اتنين ماشين في شارع .. واحد لفة والتاني طرقة) .. نظروا إليّ في استغراب وتسطيح فكيف لهم ان يفهموا الفرق بين (طرقة الكسرة ولفتها)، وقد بزلت الجهد الجهيد من قبل لشرح معنى (الدوكة) عندما جاءهم ذكرها في مقرر (مسكننا)، فلم يستوعبوا فكرة (العواسة) في صاج من الفخّار، ناهيك عن (الريكة) وشنقلتها !!
المهم .. أهو عاد العيش للواجهة مع اقتراب ابتلاء نقص الثمرات عندما ساقتنا دقستنا الكبرى لاستبدال نعيم العيش وخيرات الارض الدائمة بعرض بترول الدنيا الزائل والآيل إلى نضوب أو فطامة بالانفصال ..
مخرج
كان حكيمنا الشيخ (فرح ود تكتوك) يزرع مع حيرانه مؤنة عامهم من العيش بضرعاتهم الخضراء، ثم يخزنوه في المطامير فيأمنون بذلك ذل الجوع والمسغبة، وكان ان ضرب الجفاف بعض الاصقاع فجاءه مندوب من الحاكم يطلب منه أن يبيعهم العيش بما يرضى من الذهب .. لم يفتي الشيخ في العرض المغري ولكنه طلب من حامله مهلة لمشاورة العيش !! تحير الحيران والجيران والمندوب فكيف يستشار من لا يعقل ولا يتكلم ؟ !! وعندما حل الصباح دخل الشيخ للمطمورة وخاطب العيش قائلا:
يا العيش يا البتودر الكرميش .. يا الباكلك عشا واصبح مشتهيك .. ابيعك ولا أخليك ؟!!
وكل من حضر المشورة من الحيران جزم بأنه قد سمع صوت العيش وقورا عميقا له صدى وكأنه يأتي من بئر عميق .. سمعوه ينذر الشيخ قائلا:
ان بعتا نوم عينيك أنا مالي بيك
مخرج تااااني:
خلف الله حمد عليه الرحمة غناها وكت العيش بقى بالملوات:
سيدي الكان داكا .. سيد القدح البجر
وغنت النسوة على خطاه:
الطاحونة عيشة عيشة مضمونة
استغفرتك يا مالك روحي .. قومن يا نسوان لي صيجانكن يرحمكن الله
[/JUSTIFY]

منى سلمان
[email]munasalman2@yahoo.com[/email]

Exit mobile version