} كانت أمهاتنا توقظنا من النوم عند الرابعة صباحاً، في أحياء “أم درمان القديمة”، لنذهب إلى المخابز مبكراً، نزحف في الصفوف ساعتين طلباً لعشر رغيفات!!
} سألت مرافقي عن سر هذا الاصطفاف الألماني، فقال لي إنه يبيع بسعر زهيد، ربما (2 يورو) للسندوتش، بينما يباع في أماكن أخرى بأربعة يورو.
} والألماني على ما يتمتع به من (مجانية) العلاج والتعليم، لا يهدر المال على الفارغة والمقدودة و(البوبار) الأرعن، فإذا كان الفرق في السعر (يورو واحد) فإنه سينتظر في صف طويل ليوفر هذا (اليورو) !!
} وقد تدلف لأي محل (ماكدونالدز) وتحصل على سندوتش خلال دقيقتين ولكنك ستدفع من ثلاثة إلى عشرة يورو. وستصاب بإحباط وكدر شديدين إذا قمت بحساب ما يعادل (العشرة يورو) بالجنيه السوداني، لأنك ستكتشف أنك تلتهم سندوتشاً صغيراً قيمته (120) جنيهاً سودانياً!!
} المهم تركت الصف يزح وانصرفت، وأنا أحمد الله على نعمائه.
– 2 –
} في ذات الشارع تعرفت على شاب ملامحه سودانية، مشيته أم درمانية، نحيف، يبدو على وجهه حزن نبيل، بعد تردد اقتحمته: (هل الأخ سوداني؟).
} أجابني بعربية مكسرة: (لا.. أنا إرتيري.. بس جاي من السودان.. كنت عايش في أم درمان.. وبعدين مشيت اشتغلت في أبوحمد).
} حسناً.. وكما توقعت كان الشاب حزيناً ومحبطاً بل نادماً على أنه غادر “أبوحمد” وجاء إلى “برلين” الجميلة.. تخيلوا.. طبعاً لن تتخيلوا!!
} حكى لي الفتى (الإريتري) قصته التعيسة، قال إنه كان يعمل بقهوة في “أبوحمد” لخدمة القادمين من مناطق التنقيب عن الذهب، وكان مبسوطاً و(القشة معدن) كما يقول المصريون.
} جمع الشاب نحو (35) مليون أو ألف جنيه بالجديد، وأقنعه معارفه الإريتريون بأن الهجرة إلى أوربا عبر ليبيا ستحقق أحلامه الكبرى وتوفر له رفاهية لا يمكنه أن ينالها ولو بقي خمسين عاماً في ولاية نهر النيل السودانية.
} أخذ ماله.. كل ما أدخره من عرق وشاي وبن القهوة، وحوله إلى (دولار)، وعبر مع المهربين الصحراء إلى ليبيا. يعترف محدثي بأن بعض رفقائه ماتوا في الطريق!!
} ومن ليبيا وجدوا مهربي البحر، فدفعوا (خمسين دولاراً) للفرد لمراكب تعبر البحر المتوسط إلى إيطاليا، وفي هذه المحطة تنشط عصابات تهريب البشر، فيتم استخراج أوراق أولية للإقامة في إيطاليا بصفة لاجيء، لكن اللاجئين غالباً ما يبحثون عن أوضاع أفضل في ألمانيا والنرويج والسويد، فتبدأ المرحلة الثالثة للتهريب إلى الحدود الألمانية.
} وتلقي السلطات الألمانية عادة القبض عليهم، وتحيلهم إلى مجمعات سكنية، لحين توفيق أوضاعهم، خاصة إذا كانوا قادمين من بلدان تشتعل فيها الحروب مثل سوريا أو الصومال، أو من دول مصنفة عند الاتحاد الأوربي بمعاناة شعبها مثل إريتريا. قلت له: وإذا قلت للسلطات الأوربية إنك من السودان؟! قال لي: (السودان مالو.. ما فيهو مشكلة.. أنا عاوز أرجع السودان بعد أجمع قروش التذكرة)!!
} يقول صاحب الرواية إنه يحصل على (ثلاثمائة يورو) من الحكومة الألمانية وأنه أمضى شهرين بالسكن الحكومي حيث ينام من خمسة إلى عشرة أشخاص بصالة واحدة.
} ويؤكد الشاب الأسمر أنه محبط لأنه أهدر خمسة وثلاثين مليوناً ولم يقبض إلا الريح، مع أنه يعيش الآن بشارع بلاطه كالمرآة، ومحلاته تتراقص وكأنها في مهرجان دائم، والجمال هنا مرسوم على كل شيء.. وجوه الناس وأجسادهم، وحركاتهم وسكناتهم، والطقس ببرده الناعم لا علاقة له إطلاقا بسخانة “أبوحمد” وهجيرها اللافح..!!
} لكنني أعلم أن أهلنا (الأحباش) ما هجروا بلادهم طلباً لخضرة وجمال، أو زواج من أجنبية ساحرة وشقراء، فعندهم من جمال الطبيعة ونساء، ما يكفي ويفيض، إنما يقصدون المال ولا شيء غير المال.
} وإذا توفر المال من عائدات ذهب ” أبوحمد”، فلتطير “برلين”!!
المجهر السياسي