إقامة جبرية
(المجهر) قصدت هذه الدار، ولكن السؤال هل من دخلها سيصبح (آمناً) كدار أبي سفيان؟ تصعب الإجابة عن هذا التساؤل فاحتمال وجود الأمان وارد بقدر متساو مع وجود الإحساس بالخوف. إنها ديار زعيم التيار السلفي الجهادي بلاد النيلين الشيخ “مساعد السديرة”، ويزيد تلاميذه وطلابه المنتشرون داخل وخارج السودان الاسم ويسبقونه بمسميات تحمل دلالات علمية مثل (المحدّث) و(العلاّمة). فالرجل العلامة موقوف بسجن كوبر وتم اعتقاله منذ أمسية يوم (الخميس) الماضي 11 سبتمبر 2014م حيث اقتادته قوة من منزله على خلفية علاقته بتنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام (داعش) ومبايعته للقائد “أبو بكر البغدادي” خليفة للمسلمين. ولم تكن حادثة حبس الرجل هي الأولى وبالطبع لن تكون الأخيرة في ظل واقع محلي وإقليمي ودولي تطرأ عليه تطورات سياسية واقتصادية وأمنية ودينية، فيها الكثير من التعقيدات والتداخلات والتقاطعات ما بين المكون الداخلي والخارجي .. تأييد عائلة كاملة تضم رب الأسرة والزوجة وبناتها وأولادها لداعش يعد حالة نادرة، فلم تظهر حتى الآن أسر بايعت “أبو بكر البغدادي” كخليفة للمسلمين، وحتى من أيدوا (داعش) كانوا أفراداً يعدون على أصابع اليد الواحدة ومن بين هؤلاء إمام وخطيب مجمع المعراج الإسلامي بالطائف شرقي الخرطوم “محمد علي الجزولي”، وأمير جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة الشيخ “سليمان عثمان أبو نارو”، بيد أن الشيخ “السديرة” جاء بتقليعة أو صيحة جديدة جعلت الأسرة كلها شيبها وشبابها رجالها ونساءها في خندق مبايعة (داعش)، الأمر الذي وضع المنزل كله في مواجهة جديدة لا يعرف حتى الآن شكلها ونهايتها وما ستؤول إليه الأوضاع في المستقبل القريب، هل سيتم الإفراج عن الرجل ويتم إخلاء سبيله مثلما كان يحدث معه في السابق؟ أم تطول فترة اعتقاله ردحاً من الزمان ؟ أم يوضع قيد الإقامة الجبرية ؟ أم تنفتح الأوضاع على سيناريوهات واحتمالات لا يستطيع المراقب وضعها في الحسبان أو التكهن بمآلاتها ونهاياتها ؟ وهل سجن الرجل يشكل حراكاً محلياً يستند على حيثيات ووقائع لها صلة بالواقع السوداني، أم رغبة دوائر وجهات خارجية؟
في قبضة المخابرات
في العام 2009م احتجزت المخابرات المصرية بمطار “القاهرة” الدولي الشيخ “مساعد السديرة” بعد إكمال رحلة علاج بمصر استمرت (47) يوماً على يد الطبيب المصري “إيهاب علي” معالج لاعبي فريق نادي الأهلي المصري بالدقي، ولدى دخول الرجل ومرافقيه إلى مطار “القاهرة” الدولي في طريق عودتهم للخرطوم على متن الخطوط الجوية المصرية، تم سحبه من أسرته المكونة من (8) أشخاص، (5) نساء و(3) أطفال بصورة غير إنسانية وحبسه (في زنزانة صغيرة)، بعد أن سمح لأفراد أسرته بتأشيرة الخروج وصولاً للخرطوم ليبقى الشيخ أسيراً في قبضة الأمن المصري. وأكدت الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة حينها أن اتصالات جرت بينها والحكومة السودانية، ممثلة في وزارة الخارجية التي قامت بدورها بمخاطبة السفارة السودانية بالقاهرة التي أقرت بوجود الشيخ “السديرة” في رئاسة جهاز الأمن العام المصري بالقاهرة، في حين ردت سفارة مصر بالخرطوم أنها لا تملك أي معلومات تتعلق بعملية احتجاز الداعية السوداني، غير أن أسرة الرجل بعثت بثلاث مكاتبات ومراسلات للسفارة المصرية بالخرطوم والتي طالبتهم بملء استمارة وبيانات تحوي الاسم والسن وتاريخ ومحل الميلاد وصور من جواز السفر والإقامة بمصر، إلا أنه لم تصلهم أي ردود من السفارة رغم إلحاحهم بتوضيح ملابسات توقيف الشيخ “السديرة”. وبعد مضي (17) يوماً أفرجت السلطات المصرية عن حاج “السديرة” الذي كشف بعد وصوله للخرطوم أنه تعرض لتعذيب معنوي وجسدي، وعصبت عيناه قبل محاولة تمريره على آلة كهربائية لم يتم استخدامها نظراً لظروفه الصحية. وقال الشيخ “السديرة” إن الأمن المصري فاجأه بسرد معلومات ووقائع نادرة عن حياته منذ عهد الطفولة وحتى مرحلة الشيخوخة، بجانب تفاصيل تقلباته الفكرية والعقائدية وانتقاله من ثقافة التصوف ثم انضمامه لجماعة الإخوان المسلمين والتحاقه بأنصار السنة وإعلان انشقاقه عنها وحتى لحظة تحوله للسلفية الجهادية، واتهمته المخابرات المصرية بإرسال خلايا إرهابية للقاهرة، وأوضحوا له أن من أوشى به أحد طلابه المصريين ويدعى “سيد غنيم”. وبعد وصول الشيخ “السديرة” للخرطوم تم نقله مباشرة من المطار لتلقي العلاج بمستوصف الشيخ علي بن جبر آل ثاني بحي كافوري التابع لمنظمة ذي النورين الخيرية، وتزامنت حادثة توقيف الشيخ “السديرة” مع واقعة أخرى بطلها الدكتور “العبيد عبد الوهاب” أحد أبرز رموز التيار السلفي الجهادي والمحاضر بجامعة الخرطوم كلية الآداب الذي لقي مصرعه في ظروف غامضة، بعد مطاردة مثيرة وقعت بينه وقوات الأمن التي كانت تلاحقه نظراً لأنه مطلوب وكان يخفي نفسه، غير أن الرجل قتل أو اغتيل في أحد طرقات منطقة الحلفاية وهو يمتطي دراجة بخارية.
(دامس) في الحلبة
من العام 2009م وحتى 2012م تجول الشيخ “السديرة” في عدد من الأقطار من بينها الكويت، السعودية، إندونيسيا، سوريا، وزار اليمن وكانت له مجالس سماع علمية للطلاب في تلك البلدا، وكرسي لتدريس الفقه المالكي وكتب الحديث مع إجازة بعض التلاميذ الذين أكملوا دراسة السنن واستوعبوا متونها وحواشيها. وفي الربع الأخير من العام 2012م انطلقت المواكب الجماهيرية من عدة مواقع بالخرطوم احتجاجاً على بث الفيلم المسيء للنبي صلى الله عليه وسلم في (اليوتيوب) وكان نصيب الرجل كبيراً في هذا المضما، فمن منزله تحركت مظاهرة غاضبة التحمت مع مواكب محتجين آخرين حدث على إثر ذلك تسور بعض شباب السلفية الجهادية مباني السفارة الأمريكية بالخرطوم وحرق أعلامها مع رفع راية تنظيم القاعدة، وما وقع من اعتداء على مقر السفارة الأمريكية بسوبا حدث مثله في بناية السفارة الألمانية بالخرطوم. جاء ذلك في وقت تم فيه بصورة رسمية الإعلان عن ميلاد التيار السلفي الجهادي بالسودان وخاطب الجموع الطلابية المحتشدة بمقهى النشاط في جامعة الخرطوم رفيق الشيخ السديرة “سعيد نصر”، ليكتمل المشهد بكشف السلطات الأمنية معسكراً يتبع لشباب جهاديين من بينهم طلاب للشيخ “السديرة” و”سعيد نصر” خصص للتدريب في حظيرة الدندر استعداداً للهجرة من أجل القتال في عدد من الدول التي تشهد مواجهات مسلحة بين الفصائل الجهادية والقوات الأجنبية مثل (مالي سوريا العراق الصومال)، فتم القبض على عناصر خلية الدندر (31) مقاتلاً وأسفرت الغارة على المعسكر عن مقتل اثنين من قادة السلفيين الجهاديين هما “أحمد حسب الرسول” و”أحمد حسن مبارك”، بينما احتسبت الشرطة أحد أفرادها ويدعى “محمد أحمد” الذي لقي حتفه خلال الصدام المسلح بين القوة المكلفة بمداهمة المعسكر وعناصر الخلية، مع توقيف شيخي السلفية الجهادية “سعيد نصر” و”مساعد السديرة” بحجة تورطهما في تحميس وتشجيع الشباب للهجرة والقتال خاج السودان. ومكث الرجلان في السجن شهوراً عديدة قبل أن يتم إخلاء سبيليهما لاحقاً بعد التعهد الكتابي نظير الإفراج عنهما في وقت سبق إطلاق سراح عناصر خلية الدندر، في أعقاب دخول الحكومة في مشروع المراجعات والمعالجات الفكرية للموقوفين بسجن الهدى على ذمّة حادثة الدندر الذي ابتدره الرئيس العام لمجمع الفقه الإسلامي “عصام البشير” وتم بمقتضاه تفريغ السجن من الجهاديين .
لكن تطورات الأحداث بمنطقة الشام (سوريا والعراق) أعادت الوضع مرة أخرى لمربع ملاحقة الجهاديين على خلفية إعلان القائد “أبو بكر البغدادي” الخلافة الإسلامية وتنصيب نفسه خليفة للمسلمين، حيث التحق بداعش مجموعة من شباب السلفية الجهادية تلاميذ الشيخ “مساعد السديرة” ثم ظهرت تغريدات الرجل في تويتر تشدد على مناصرة داعش ومبايعة “أبو بكر البغدادي”. وقال “السديرة” في تدوينته الإلكترونية (أبايع أمير المؤمنين “أبا بكر البغدادي” خليفة للمسلمين له علينا السمع والطاعة زوجتي وأولادي). وانتشرت التغريدة على نطاق واسع وتم تناولها وتداولها والتعليق عليها من قبل المتداخلين بصورة كبيرة داخل وخارج السودان. وتردد وقتها أن “البغدادي” اختار الشيخ “مساعد السديرة” أميراً لولاية الحبشة التي تضم (إثيوبيا إرتريا مصر إفريقيا الوسطى تشاد والسودان) (دامس)، ومضى الشيخ “السديرة” لأبعد من ذلك حينما أصدر فتوى قضت بوجوب الهجرة والنفرة للانضمام لتنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام (داعش) باعتبارها حاضنة الخلافة، هذا إلى جانب وضعية الرجل الذي يعد واحداً من المرجعيات والركائز الفكرية للتيار السلفي الجهادي، ويتمتع بمقبولية كبيرة وسط أنصاره داخل وخارج البلاد. وما يزيد من تعقيدات القضية أبعادها الإقليمية والدولية حيث تزامن توقيف الشيخ “السديرة” هذه المرة مع مرور الذكرى الـ(13) لأحداث الحادي عشر من سبتمبر التي جاءت مناسبة ذكراها مع توافق عدد من الدول العربية والغربية أكثر من (40) دولة، لشن هجمات مشتركة على (داعش) وبداية قيادة حرب لا هوادة فيها ضد الإرهاب والمتطرفين بسوريا والعراق .
بيعة “البغدادي ”
في منزل الشيخ مساعد “السديرة” بحي الدروشاب شمال شرعت زوجته “أم أسامة” في تعزيز دفاعاتها، وقدمت “عواطف خلف الله” مرافعة قوية دفاعاً عن زوجها وتنديداً بعملية اعتقاله، بعد أن أوضحت أن الحابسين استولوا على هاتفه النقال. واستهلت حديثها بأن بعلها يجد الاحترام والتقدير خارج السودان والإهانة داخل بلاده، مبينة أنها رافقت زوجها الشيخ “السديرة” في زياراته الخارجية ورأت تبجيل الشيخ السوداني من قبل شخصيات عربية، ونفت وجود علاقة بينه وتنظيم القاعدة على المستوى العملي. وقالت نعم على الصعيد العلمي هناك شبه اتفاق في مسألة قتال الكفار ومجاهدة القوات الأجنبية والغزاة من جيوش الدول الغربية. وأبانت أن “السديرة” ليس له مليشيات عسكرية ولم تضبط الحكومة قطعة سلاح (واحدة) بحوزته، معتبرة أن سلاحه هو العلم وأن تدريسه للطلاب داخل وخارج السودان لا يشكل مهدداً أمنياً بقدر ما تشكل الكنائس وكليات اللاهوت خطراً على عقيدة المسلمين، مشيرة في حديثها لـ(المجهر) أن الحكومة رفضت التصديق للشيخ “السديرة” بكلية علمية شرعية أطلق عليها كلية الإمام “البخاري” وصدقت في ذات الوقت كلية لعلم اللاهوت. وأوضحت “أم أسامة” أن السلطات الحكومية أغلقت معهده الشرعي بحي شمبات الأراضي وصادرت أجهزة الكمبيوتر الخاصة به وحظرت نشاطه في المركز، لتنتقل دروس السماع من حي شمبات الأراضي إلى منزله بالدروشاب شمال نظراً لتزايد أعداد الطلاب وإقبالهم لتلقي العلوم الشرعية. وأقرت “أم أسامة” بأن بعض تلاميذ الشيخ “السديرة” استشهدوا في مناطق العمليات في عدد من الدول العربية والإسلامية مثل الصومال، مالي، أفغانستان، سوريا والعراق، وبعضهم لا زال يقاتل في الجبهات بالخطوط الأمامية لمواجهة التدخل الأجنبي في تلك البلدان ولمحاربة الشيعة الروافض. وأضافت “أم أسامة” أن الجهاد لا يعتبر جريمة أو جريرة يعاقب عليها بالسجن. وقالت كل الكتب الإسلامية تتحدث عن الجهاد والمغازي والفتوحات وقتال الكفار من الصليبيين واليهود والنصارى المحاربين، وشددت “عواطف خلف الله” على أن زوجها كثير الانتقاد لـ(لباطل) والهجوم على الفساد خاصة الفساد العقائدي. واعترفت بأن زوجها بايع الأمير “البغدادي” وهي بيعة معروفة ومشهودة ترجمت باللغة الإنجليزية. وأضافت: (بايعنا معه وليس لدينا مانع من القتال)، مؤكدة أن أهل بيتها سيتحملون تبعات وضريبة البيعة التي في أعناقهم حتى لو كلفتهم أرواحهم، وقطعت بأنها لن تتراجع عن هذا الخط. وبشأن مواقف العلماء والدعاة من عملية اعتقال الشيخ “السديرة” ردت “أم أسامة”، أن الرابطة الشرعية للعلماء بقيادة “الأمين الحاج” سبق وأن أصدرت بياناً بعد مضي (3) أشهر من عملية توقيف زوجها في العام 2102م، لكنها لم يصدر منها حالياً ما يفيد بنقدها أو مباركتها لحادثة حبس الشيخ “السديرة” حالياً. وحول ما يتردد عن وجود جهات خارجية تقدم دعماً مالياً أو تمويلاً لنشاط الشيخ “السديرة” الديني نفت “أم أسامة” تلقيهم لأي تمويل خارجي. وكشفت في ختام حديثها لـ(المجهر) أن زوجها يعتمد في معاشه على عمل تجاري محدود ونشاط زراعي، وامتلاك حافلة ركاب (هايس) لتأمين قوت عياله ومقابلة ضروريات الحياة. ورفضت “أم أسامة” استعطاف الحكومة، وقالت بلهجة قوية وحاسمة أدعو الحكومة للإفراج عن الشيخ “السديرة” فوراً لأن ساحته بريئة من أي اتهامات، وصحيفته وسجله نظيف وخالٍ من الإدانات والتجريم، بيد أن “أم أسامة” عادت لتقول في لغة عاطفية متسائلة: (كيف تعتقل السلطات رجلاً تجاوز الـ(70) من عمره ويحمل بين جوانحه أريحية وإنسانية تجعله يخدم (الصغير والكبير) و(المرأة قبل الرجل)، بتواضع وبساطة لا يعرفها إلا من عاشره وتعامل معه؟). وقالت إن توقيف زوجها محاولة لتقييد حركته وحظر نشاطه وعرقلة مشروعه الجهادي- التي قالت إنه تمدد داخل وخارج البلاد، وسيبقى خالداً مهما تكالبت عليه دول الشر لتطفئ جذوته، لكن الله (متم نوره ولو كره الكافرون!).
الهادي محمد الأمين: صحيفة المجهر السياسي
ي.ع