إبراهيم الشيخ: “مافي في قلبي شيء” ونحن متسامحون

[JUSTIFY]ما بين مدينة (النهود) التي شهدت على مولده في الثامن والعشرين من شهر يونيو عام 1956م، وسجنه في ذات المدينة التي نشأ وترعرع فيها في الثامن من يونيو الماضي، كان مسرح الرواية التي استمرت مائة يوم نقلت خلالها سلطات سجن مدينة (النهود) التابعة لولاية شمال كردفان إبراهيم الشيخ رئيس حزب المؤتمر السوداني إلى مستشفى الشرطة بالخرطوم لتلقي العلاج وإجراء عملية جراحية وإرجاعه إلى سجن مدينة الفولة ومن ثم إلى سجن مدينة الأبيض وظل يقبع خلف القضبان إلى أن حملت أنباء الأسبوع الماضي التي أكد فيها الرشيد هارون وزير الدولة برئاسة الجمهورية تأكيد البشير حرصه على تهيئة المناخ للحوار الوطني، مؤكدا أن الرئيس قرر إطلاق سراح إبراهيم الشيخ، رئيس حزب المؤتمر السوداني فورا.. وكان ثابو أمبيكي الوسيط الأفريقي ـ بحسب تصريحاته الصحفية عقب لقاء رئيس الجمهورية ـ دعا البشير إلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين تطويرا للحوار، وأضاف أن الرئيس أكد له أن الشيخ سيتم الإفراج عنه، الأمر الذي تحقق بعد ستة أيام من صدور القرار.. (اليوم التالي) توصلت إلى الشيخ بعد إطلاق سراحه وأجرت معه الحوار أدناه والذي يعتبر الأول بعد إطلاق سراحه.

* بعد “مائة يوم من العزلة”، حمدا لله على السلامة ود الشيخ..

– في الواقع لا يوجد وجه شبه بين حالتي ورائعة ماركيز (مائة عام من العزلة)، وفي الواقع لا يوجد وجه شبه بين الحالتين.. وكانت مساحة واسعة جدا للتلاقي مع الناس عبر الزيارات، وعبر التفاعل الاجتماعي الواسع الذي حدث بيني وبين المواطنين؛ ابتداء من النهود، مرورا بساهرون، وعودة بسجن الفولة، وخاتمة المطاف بسجن الأبيض.. وجميعها كانت صفحة مضيئة في حياتي.. وأنا لا أستطيع أصلا أن أطلق عليها أنها كانت عزلة أبدا. بل على العكس؛ كانت أياما مليئة بالتفاعل مع الناس والزوار، ومجموعات التقيها لأول مرة في حياتي.. أتيحت لي فرصة للالتقاء بها رغم أنها لم تطلع على برنامج الحزب، وخلال وجودي استطعت أن أناقش وأشرح لها برنامج الحزب بعمق، واستطاعت أن تعرف عنه، وبعضهم تعرف بشكل جيد على حزب المؤتمر السوداني، ورئيسه، وأصبح لهم تقدير عميق للحزب، وقالوا إن الأمر لم يحدث من قبل بالسجن.. وأنا حينما تلقيت نبأ إطلاق سراحي كنت سعيدا، وحينما أصدر القرار كنت سعيدا، رغم أن هناك جهات كان لها تقدير أن لا يطلق سراحي، ولكن رغم ذلك تم إطلاق سراحي، وأنا سعيد بالخطوة.

* كيف تمت معاملتك داخل السجن طوال فترة الاعتقال..؟

– أؤكد لك بكل صدق أنني أقدر المعاملة الطيبة التي تمت تجاهي في كل السجون.. المعاملة كانت طيبة بدءا من سجن النهود ومرورا بسجن الفولة ومن ثم في سجن الأبيض.. وكل المجموعات القائمة على أمر السجن كانت معاملتها تجاهي طيبة واحترموني وأجمل التعامل كان في سجن الأبيض وتم احترامي بشكل كبير جدا وتم توفير جميع المعينات اللازمة بالنسبة لشخصي والمجموعة في السجن والزيارة كانت مفتوحة والجرائد كانت متوفرة والإقامة أيضا كانت جيدة.. وحتى العنابر التي كن نقيم فيها تمت صيانتها بشكل جيد والحمامات كانت نظيفة وتمت معاملتنا معاملة جيدة جدا داخل السجن.

* حدثنا عن العلاقات الجديدة التي نشأت بينك وبين السجناء طوال فترة الاعتقال في النهود والفولة والأبيض وماهو تقييمك لتلك العلاقات؟

– حقيقة فترة السجن أتاحت لي فرصة لأول مرة لاكتشاف العوالم الخفية التي لا يعرفها كثير من الناس فضلا عن أنهم لا يتطرقون لها في كثير من الأحيان.. السجن عالم كبير جدا وحافل ويعج بالجماهير والجرائم والطبقات الاجتماعية التي لها وضعيتها الخاصة.. وأتصور أن السجناء هم نتاج طبيعي للواقع الاقتصادي والاجتماعي السياسي السائد في البلاد.. وجدنا داخل السجن مجموعات كبيرة ولها قضايا مختلفة تواصلت معهم وتلمست قضاياهم.

* حدثنا عن بعض المواقف والطرائف التي مرت بك داخل السجن..؟

– المواقف والطرائف التي مرت بي داخل السجن كثيرة ومعظمها كانت تتصل بالمعاملات مع السجناء داخل السجن، وطريقتها ولا أستطيع أن أذكر لك طرفة أو موقفا بعينه.

*ما هي أبرز المكاسب التي حققتها من تجربة الاعتقال والسجن؟

– اكتسبت المعرفة العميقة بالعالم الخفي وما وراءه وهو عالم آخر فيه أشياء كثيره وترتاده مجموعات متباينة.. ونظرة الاتهام والتجريم للسجناء نظرة خاطئة فهناك مظاليم داخل السجن وحتى المدانين كانت لهم ظروف محددة لأنهم لم يولدوا مجرمين ولم تكن لديهم نوايا إجرام ولكنهم بالصدفة تحولوا لمجرمين وأحيانا قتلة وأحيانا شيكات مرتدة وغيرها وتجارة مخدرات لا علاقة لهم بها وهناك ظروف كثيرة جدا تجعل الواحد لا يحكم على الناس بالأحكام الصادرة في حقهم.

* ما هي حقيقة أنك أطلقت سراح عدد من السجناء المدانين بشيكات مرتدة بعد أن قمت بسداد مديونايتهم المالية؟

نعم كنت محتكا بالمساجين من خلال الصلوات في الظهر والعصر كنا نجلس لفترات طويلة ونتعرف على مشاكلهم وأسباب دخولهم للسجن وتناقشت معهم بشكل شخصي واكتشفت أن هناك أشخاصا مسجونين بمبالغ زهيدة وبسيطة وبدأت بعد ذلك في إخراج المساجين بمبالغ زهيدة وبعدها تطورت إلى المبالغ الأكثر.. والمدانون في جرائم مالية وفقت في مساعدتهم على الخروج من السجن وأنا سعيد كوني ساهمت في إطلاق سراح مجموعات كبيرة عبر المساهمات المالية التي دفعتها لتلك المجموعات وكنت سعيدا بهذا الأمر.. وهناك مسجونان جنوبيان رجل وامرأة عليهما دية أيضا قمت بدفعها وهي مبلغ (30) ألف جنيه فقط والآن ينعمان بالحرية وكانت سعادتهما كبيرة، وأنا سعيد بخروج الآخرين وربنا أرسلني للسجن كي أكتشف هذه الأشياء والمسائل وأساعد في حلها وأطلق سراح العديد من المسجونين الذين مكثوا سنين عددا والحمد لله وفقني الله في هذا الأمر.

* ومن سعى لإطلاق سراحك أنت؟

– طوال وجودي في سجن النهود كنت أتعرض يوميا لضغوط واتصالات ومحاولات عديدة جدا توجت بمحاولة نائب المعتمد الذي طالبني بالاعتذار مقابل إطلاق سراحي كما فعل الإمام الصادق المهدي.. ورفضت كل المساومات والمحاولات وكذلك مبادرة أمير أمارة حمر عبدالقادر منعم منصور الذي قاد مجهودات كبيرة جدا، لكنني استعصمت بموقفي ورفضت الأمر تماما وكنت أستعصم بموقف محدد لدي به قناعة كبيرة جدا واخترت أن أصمد إلى آخر لحظة وفي النهاية موقف اخترته بنفسي وكان غير وارد أن أقدم فيه اعتذارا أو تراجعا.

* ما تعرضت له هل جعلك تأخذ في ضميرك حقدا تجاه رموز النظام؟

– هذا لم يحدث ولا يوجد في قلبي شيء من حتى ولا أحقاد ولا رغبة في الانتقام أو حتى الدعاء على هؤلاء ولا حتى دعاء (اللهم انصرنا على من عادانا ومن ظلمنا).. حتى هذه أخليت طرفي منها تماما والآن نحن متسامحون جدا ونأمل أن يعود النظام إلى رشده ويدرك أننا ليست لدينا مسائل شخصية ضده بل اختلفنا معه في برنامج سياسي طوال فترة خمسة وعشرين عاما أورثت البلاد الفقر والحروبات والأزمات المتلاحقة وبالتالي نعتقد أن حديثنا في المنابر والندوات يأتي من أجل أن يثوب النظام إلى رشده وأننا ندق ناقوس الخطرة كي ينتبه النظام وهذه مهمة المعارضة التي لديها حرص على وطنها وعلى مستقبل الأجيال القادمة والحريصة على عبور البلاد من أزماتها إلى بر الأمان وبالتالي (مافي في قلبي شيء من حتى) بصراحة وأنا صادق في ما أقوله.

* برأيك هل كانت مسألة الاعتقال قانونية أم سياسية؟

– لا يوجد جدل في أن الاعتقال كان اعتقالا سياسيا رغم أن أنه تسربل في أثواب قانون.

* إبراهيم الشيخ خارج السجن ورفاقه لا زالوا خلف القضبان.. هل أنت راض عن هذا الأمر؟

– الآن يتم إطلاق سراح الصحفي حسن إسحق والدكتور صديق نورين وبقية معتقلي حزب المؤتمر السوداني من الشباب والطلاب وبعد ساعات سيكونون في مدينة النهود وسنحتفل بهم جميعا وأنا متأكد أنهم سيتم إطلاق سراحهم أو ربما تم إطلاق سراحهم فعليا.

* وماذا بشأن بقية المعتقلين السياسيين الآخرين؟ هل لا زلتم متمسكين بإطلاق سراحهم؟

– تماما وفي الأساس نحن قضيتنا ليست قضية شخصية ولم يكن إبراهيم الشيخ المعتقل السياسي الوحيد.. ولجنة حصر المعتقلين السياسيين ذكرت أن هناك (64) معتقلا سياسيا الآن موجودون في السجون بعد الاتصال بالأحزاب السياسية وذكرت أن هناك (67) معتقلا تمت محاكمتهم سياسيا منذ عملية أم درمان التي نفذتها حركة العدل والمساواة إلى آخر عمليات أبوكرشولة وهناك ترتيبات جارية لإطلاق سراحهم ونأمل أن تتكامل المسألة ويتم إطلاق سراح جميع المعتقلين ولا يعود هناك سجن ولا سجان ولا معتقل سياسي واحد في سجون السودان ويتم وقف الحرب بشكل عاجل ومستعجل ويتم فتح الممرات لمد العون الإنساني لكل الجهات وتتم إزالة كل القوانين المقيدة للحريات وتكون كل أبواب الحريات مشرعة للجميع دون قيد أو شرط وأن لا تتم مصادرة صحف أو اعتقال سياسي بأي شكل من الأشكال.. وأن يكون الوطن يسع الجميع وأن يلتزم الجميع بروح هذا الشعار والحوار وكي يسع الوطن الجميع لابد أن تحتمل الآخر ولابد أن تقدم تنازلات وأن لا تنتهك القوانين ولابد من سيادة حكم القانون ولابد من استقلال القانون ويجب أن ندع القانون وحده يجرم من يجرم ويبرئ من يبرئ دون استغلال لأي جهة ودون مخاوف.. والحرية هي حق أصيل يجب أن تتوفر.

* كيف تنظر للمجهودات التي قادها الوسيط الأفريقي ثامبو أمبيكي والتي أفلحت في إطلاق سراحك؟

– الوسيط الأفريقي يلعب دورا كبيرا في دفع الحوار ومجهود أديس أبابا فيه اختراق كبير جدا والآن الآفاق أصبحت واسعة.. والنظام لديه الآن استعداد لأن يقدم تنازلات ويؤجل الانتخابات ويلغي القوانين المقيدة للحريات ويكون لديه استعداد للتعايش مع الآخر وتحمله دون أن يكون لديه أي ادعاء بأن هذا الوطن ملك له والدين ملك له والوطن له رب يحميه والدين له رب يحيمه.. وهؤلاء مجموعة بشر حكموا السودان لربع قرن من الزمان وكفاية أزمات، كفاية.. يجب أن نجلس في الأرض والتربيزة ونفتح أفقا جديدا ونستشرف مستقبلا جديدا.

* ما هو موقفكم المبدئي من إعلان باريس واتفاق أديس أبابا؟

– موقفنا تجاه إعلان باريس وأديس أبابا.. نحن مع إعلان باريس ونعتبر خطوة جبارة في اتجاه إيقاف الحرب إلى جانب أنه استطاع أن يجمع جميع فصائل الجبهة الثورية على صعيد واحد ولكن الغيرة والأنانية والأنا الضيقة والتنافس المحموم بين الأحزاب السياسية جعلتهم يرفضون إعلان باريس ولكن الحمد لله تم إعلان أديس أبابا وهو مخرج لأزمات البلاد لكنه يحتاج لبعض الصفة القومية ومزيدا من الضمانات مثل رفع القوانين المقيدة للحريات وتشكيل حكومة انتقالية وتأجيل الانتخابات.. ويجب أن يتواضع المؤتمر الوطني ويعود لوضعه الطبيعي ويقبل أن يمضي مع الناس بحجمه الطبيعي.. ونأمل أن يكون المؤتمر الوطني لديه استعداد وأعتقد أن القوى السياسية ممثلة في قوى الإجماع والجبهة الثورية محتاجة أن ترسل بعض الرسائل التي تطمئن المؤتمر الوطني وأن يكون شريكا أصيلا مع الأحزاب في المرحلة القادمة وهذا يحتاج إلى أفق واستيعاب.. والآن المسألة مفتوحة للتداول.

* هل أنت متفائل بمستقبل التسوية السياسية القادمة؟ وهل يمكن أن تخرج البلاد من أزماتها؟

– التفاؤل والتشاؤم كلاهما فعل وفكر منحاز وأن لا أريد أن أنحاز لكليهما.. ولكن الآن هناك مساع بدأت تؤتي أكلها وبدأت تثمر بقليل من الصبر والحوار العميق والمتأني وغير المتعجل وغير المتوتر نستطيع أن نعبر من الحالة الراهنة وهناك مؤشرات طيبة يمكن أن تفضي إلى مخرج سليم للبلد.

* ماذا أنت قائل إلى عمر البشير رئيس الجهورية؟

– أقول لعمر البشير رئيس الجمهورية الآن الكرة في ملعبك والمقررات في يدك وحان الوقت كي تضع البلد في الاتجاه الصحيح وتقدم تنازلات كثيرة جدا جدا وتتجاوز النظرة الحزبية الضيقة، والمؤتمر الوطني، هذا الوعاء الضيق، إلى رحاب السودان الواسع وتحقق السلام والعدالة والديمقراطية وتطلق الحريات للجميع وتقبل بحكومة قومية انتقالية لأمد محدد تقودنا جميعا إلى انتخابات نزيهة تحدد من يحكم السودان.

* ثم ماذا بعد الخروج؟

– السجن نتاج طبيعي لحال الوطن والآن صار السجن هو المكان الذي فيه جميع أهل السودان وتجد فيه جميع أطياف المجتمع السوداني.. والسجناء جميعهم نتاج لسياسات والسجن هو مرآة حقيقية لحالة الوطن وللأزمة الراهنة ومعبر حقيقي عما يحدث في الوطن.

* رسالة أخيرة..

– التحية للشباب والأحزاب السياسية وقوى الإجماع الوطني والجبهة الثورية والصادق المهدي وحزبه الذين لعبوا دورا في تهيئة المناخ وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين التحية لهم جميعا.. والتحية والشكر الجزيل للاتحاد الأوروبي والسفارة الأمريكية والبريطانية والنرويجية والوسيط الأفريقي ثامبو أمبيكي ولكل المنظمات والاتحادات والدول والذين ساهموا في إطلاق سراحنا من المعتقل وأشكر لهم هذه الجهود وشكرا لـ(اليوم التالي) التي وفرت لنا هذه الإطلالة الأولى لنطل على الجماهير بعد أن كنا في السجن لفترة مائة يوم.

اليوم التالي

[/JUSTIFY]
Exit mobile version