تساؤلات كثيرة تدور في الوسط السياسي حول الأسباب الحقيقية التي دفعت الحكومة والحركات المسلحة لتوقيع اتفاق أديس الذي لم يكن ينتظره أحد، بل كان اليأس من الحوار نفسه قد بلغ مداه بعد توقيع اتفاق باريس الذي صعد التوتر في الساحة السياسية وخلق حالة استقطاب سياسي غير مسبوقة.
التأمل العميق لما يدور في الساحة الاقتصادية من شأنه أن يعطي إجابة أكثر دقة لتلك الأسباب والدوافع التي حدث بالحكومة تحديداً للتفكير خارج الصندوق.
2
نبهني الصديق إبراهيم محمد الحسن لعبارة قديمة شكلت لي إجابة كاملة للسؤال أعلاه.. إنه (الاقتصاد يا غبي)!!. هذه العبارة صكها السيد جميس كارفيل في أوائل تسعينيات القرن الماضي، عندما كان يوقد الحملة الانتخابية للسيد بيل كليمنتون (1992) ضد منافسة جورج بوش الأب.
وكان وقتها بوش في قمة انتصاراته السياسية والعسكرية، إذ شهد عهده انهيار الاتحاد السوفيتي وإخراج صدام حسين من العراق وسيطر علي نفط الخليج بالكامل.
كان صعباً ومستحيلاً علي محام شاب كـ(كلينتون) منافسة جورج بوش وهو في قمة مجده، إلي أن خرج السيد جيمس كارفيل بهذه العبارة (إنه الاقتصاد يا غبي) التي قلبت موازين التنافس الانتخابي رأساً علي عقب.
قدم السيد كارفيل وفريق كلينتون وصفة اقتصادية تتعلق بالرعاية الصحية والضرائب، وتمت ضياغة برنامج اقتصادي رائع لبيل كلينتون، وكانت هذه هي نقطة ضعف السيد جورج بوش الأب.
3
الآن الاقتصاد هو الذي فرض مسارات الحل السياسي علي الطرفين الحكومة والحركات، الحكومة لم تعد أمامها سكة أخري غير إجراء تعديل جذري في شكل ونهج الحكم.
الحكومة أعلنت خلال هذا الشهر أن رصيدها الاحتياطي من النقد الأجنبي لم يعد يتجاوز 267 مليون دولار، وهو احتياطي في غاية التدني وينذر بأخطار شتي، أهمها استمرار تصاعد سعر الصرف في السوق الموازي، ما يعني تصاعد مستمر في التضخم الذي بلغ حد الخمسين في المائة، أضف إلي ذلك ميزانية داخلية تعاني من عجز متصاعد وهي تقبل الآن علي موازنة جديدة سيتسع عجزها مما يهدد ليس التنمية فقط، بل حتي الخدمات الضرورية والأساسية للمواطنين.
4
العجز في ميزان المدفوعات الخارجي حدث ولا حرج.. إذ تصاعدت فاتورة الاستيراد من الخارج وبلغ العجز حالياً أكثر من ثلاثة مليارات دولار.
المخزون الاستراتيجي للقمح يعاني نقصاً حاداً مما يجعل المطاحن مهددة بالتوقف إذا لم تستطع الحكومة توفير نقد أجنبي قادر علي سد النقص، ومن أين للحكومة ذاك النقد؟.
فالمنحة القطرية نفدت وليس من مخرج آخر في ظل حصار اقتصادي أمريكي عربي علي كل منافذ الاستدانة الخارجية .
5
أضف لذلك أن فتح الاعتمادات الخارجية يواجه مشاكل عويصة، إذ أن أغلب البنوك أغلقت أبوابها أمام أي نوع من التعاملات التجارية مع السودان.
لم يعد فتح خطاب اعتماد لأية شركة سودانية سهلاً ناهيك عن الحكومة السودانية.
توقف التعامل بالريال باكراً وقبلها الدولار والاسترليني واليورو، لم يتبق سوي الين الصني والدرهم الإماراتي وكلاهما يواجه المستوردون صعوبات في الحصول علي بنك يستطيع أن يفتح بهما خطاب اعتماد.
6
أمريكا التي تسلط عقوباتها علي السودان وشعبه أصبحت تفرض عقوبات مليارية علي البنوك التي تتعامل مع الحكومة السودانية، وقامت خلال الشهرين الماضيين بتوقيع عقوبة قدرها عشرة مليارات دولار علي أكبر البنوك الفرنسية لتعامله مع السودان.
7
المشكلة الأخري أن ايرادات السودان من صادراته هي الأخري أصبحت مهددة.
فالأموال التي تعود من صادرات البترول تواجه مصاعب في تحويلها من الخارج إلي بنك السودان مما يضطر الحكومة لطريق طويل لاستلام تلك الأموال، الاستثمار في السودان لم يعد جاذباً رغم الفرص الكثيرة المتاحة، ولكن عدم قدرة المستثمرين علي الاستفادة من عائدات أموالهم المستثمرة داخلياً بالعجز عن تحويلها للخارج يحول دون تدفق “رساميل” كبيرة للاستثمار بالسودان.
8
في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية المأزومة لم يكن هنالك من حل سوي اجتراح مسارات جديدة، فالحل هنا ليس اقتصادياً، فالسياسة هي أصل الداء الآن والحصار المحكم الذي تفرضه أمريكا علي شعب السودان لا حكومته فقط، يفرض محاولة التفكير خارج الصندوق.
جزء من هذا التفكير إحداث انفراج سياس داخلي مدعوم دولياً يساعد في تخفيف وطاة الحصار ويفك الطوق عن رقبة الحكومة.
9
الآن نحن بحاجة لسياسة خارجية فعالة تستثمر مكاسب السياسة الداخلية وتعمل علي تسويقها خارجياً مع قيادة حملة جولية لإلغاء هذا الحصار غير الإنساني علي السودان، ستكون بيد الحكومة كروت ممتازة تتوفر لها لأول مرة…
10
بعد توقيع اتفاقيات أديس مع الحركات المسلحة في أكتوبر القادم، يمكن إعلان السودان منطقة خالية من الحروب، إضافة للسماح لمنظمات الإغاثة بالعمل في مناطق النزاعات، ثم هناك حوار يتقدم لتشكيل خارطة سياسية جديدة تصبح البلاد بعدها أكثر انفتاحاً وتتمتع بنظام ديمقراطي حقيقي.
كل هذه كروت يمكن تسويقها عالمياً.. هل عرفتهم لماذا وافقت الحكومة الآن علي التفكير خارج الصندوق.. إنه الاقتصاد يا ذكي!.
صحيفة اليوم التالي
ي.ع