أما الحدود المصرية السودانية التى تمتد لنحو 1273كم، والثروات الطبيعية الهائلة التى تحتضنها الدولتان، وصلة النسب والمصاهرة؛ تدفعنا للتمسك بإقامة علاقات مشتركة تتميز بالخصوصية، والتفاهم العميق مع السودان الشقيق، وتطوير علاقاتنا الاقتصادية المشتركة وإحداث نقلة نوعية فيها تتماشى مع ما تطمح إليه شعوب المنطقتين.
ويمثل السودان العمق الاستراتيجى الجنوبى لمصر، لذا فإن أمنه واستقراره يمثلان جزءًا من الأمن القومى المصرى، ومن هنا تبرز أهمية السياسة المصرية تجاه السودان؛ للحفاظ على وحدته، واستقراره، وتماسكه من ناحية؛ وفى تعزيز علاقات التكامل بين الجانبين من ناحية أخرى.
فعندما قامت فى السودان الثورة المهدية، أول حركة وطنية يقوم بها السودانيون، ضد الحكم الاستبدادى، وارتبطت بشكل مباشر مع ثورة عرابى، فى أغراضها ومنهجها؛ لذا تربص لها الاستعمار الجاثم على صدر مصر، فضغطت بريطانيا على مصر، وطالبتها بإجلاء جنودها ورعاياها عن السودان، وبدأ تنفيذ خطة بعيدة المدى؛ لإقامة الحواجز بين مصر والسودان، منعا لوجودِ عمقٍ عربىٍّ متجهٍ إلى داخل أفريقيا، التى فرض عليها الاستعمار، سياجا من فولاذ.
لم يهدأ الشعبان أو تفتر جهودهما، بل تواصل الكفاح وحشد الوطنيون جهودهم فى مقاومة المستعمر، فأثمرت عن ثورة مايو 1969، التى توجت الكفاح المشترك بين الشعبين الشقيقين السودانى والمصرى، بحكومة ثورية وطنية فى القاهرة، وحكومة ثورة وطنية فى الخرطوم، يتجهان إلى بناء مجتمع الكفاية والعدل, وتلاحمت الثورتان فى أكثر من مجال ضد الاستعمار الحديث، وضد الغزو الصهيونى فى أكثر من مجال, ضد الاستعمار الحديث، وضد الغزو الصهيونى؛ ومساندة لحركات التحرر فى أفريقيا من أجل التنمية والبناء.
وكما قال الرائع سوار الذهب: “نعم لقد كنا دولة واحدة تحت التاج المصرى، وأتمنى أن يتحقق ذلك ونعود كما كنا؛ لأن التكامل الاقتصادى والزراعى بين مصر والسودان ضرورة حتمية لا مفر منها، فالاستثمارات المصرية فى السودان تتم بخطوات بطيئة، وكان مفترضًا أن تكون أسرع مما هى عليه الآن.
أما الرئيس السودانى عمر البشير عرض على الرئيس المخلوع حسنى مبارك أن يقوموا المصريين بزراعه جزء من الأراضى السودانية؛ ليستفيدا البلدان، لكنه رفض هذا العرض؛ مجاملة لأمريكا وإسرائيل اللذان رفضا هذا الوضع.
والغريب أن الرئيس السودانى عمر البشير، قد زار مصر عقب الثورة، وقال: “إن مصر لها الأولوية فى الاستثمار داخل الأراضى السودانية عن طريق التبادل، والاستفادة المشتركة، وأنها النواة الحقيقية للتكامل فى الموارد الطبيعية والاقتصادية المتمثلة فى التكنولوجيا والعمالة ورؤوس الأموال والمياه والأراضى الخصبة؛ لتحقيق الأمن الغذائى بين البلدين لكنه لم يجد إجابة أو ردا إيجابيا بعد أن تحول الحكام إلى لعبة فى يد “ماما أميركا”.
ولم تتوقف محاولات المخلوع فى إفساد العلاقات بين الشعبين الشقيقين، فوضع المزيد من العقبات والمشاكل؛ لإفساد التكامل، كتجميد الاتفاقيات، ومنع المستثمرين من استكمال مشاريعهم، الأمر الذى دفع سياسى سودانى إلى مخاطبة المخلوع بقوله: “سيزول حكمك والبشير.. والمجد لشعب مصر ووادى النيل”.
شقيقتان جمعتهما الوحدةُ وفرقهما الاستعمار.. دولتان يجمع بينهما التاريخ والكفاح ضد الاستعمار؛ ليشكلا بلدًا واحدًا عبر تاريخهما الطويل.
ونهر النيل الخالد بين مصر والسودان شاهدٌ على روابطٍ مشتركةٍ فى الحضارةِ والتراث، و تجسيد عمق العلاقات التى تربط بين شطرى الوادى بأنها ترجع إلى عصور قديمة فى التاريخ.
فأول ما يطلعنا به التاريخ أنهما أقدم كيان وحدوى عرفه الإنسان،
كما كشفت الكتب القديمة والآثار عن مدى قوة الترابط بين شعبى وادى النيل فى مصر، والسودان وكثيرًا ما تداخل تاريخ البلدين, وكما قال أمير الشعراء أحمد شوقى من خلال أبيات خالدة “فمصر الرياض وسودانها .. عيون الرياض وخلجانها وماهو ماء ولكنه .. وريد الحياة وشريانها”.
ورد عليه شاعر سودانى بقوله “عاشت مصر حرة والسودان …دامت أرض وادى النيل أمان … السودان لمصر .. ومصر للسودان “؛ للتأكيد على حضارة متأصلة تجمع بين وادى النيل شماله فى مصر وجنوبه فى السودان.. حضارة متجذرة، تبدأ بشمال السودان وتصل الخرطوم وتمتد لتصل إلى القناطر التى أنشأها محمد على بالسودان، وامتدت حتى وصلت لمنابع النيل كتعبيرٍ طبيعىٍّ عن مشاعر الإخوة والأشقاء أصحاب التاريخ الواحد والقضية الواحدة.
والتاريخ يشهد بوثائقه أنه فى فترة الخلافة العثمانية صدرت عدة فرمانات تنص على اعتبار مديريات النوبة ودارفور وكردفان وسنار ومينائى سواكن ومصوع، وجنوبًا حتى خط الاستواء تشكل مع مصر كيانًا سياسيًّا واحدًا، يجعل وادى النيل بقطريه بلدا واحدا يؤلّف وحدة سياسية دولية، كأيّة وحدة دولية قائمة فى العصر الحديث.
كما أكد دستور مصر الذى صدر عام 1880م أن السودان جزء لا يتجزأ من مصر.
وقد تمثلت وحدة النيل فى مظاهر متعددة، منها: (وحدة الجيش والإدارة، ويمين الولاء، ووحدة العلم، ووحدة النقد والعرش والهتاف لملك واحد هو ملك مصر والسودان)، وقد استمر هذا الوضع الوحدوى طويلا؛ لينصهر الشعبان فى كيانٍ واحدٍ إلى أن وثق الاستعمار البريطانى أقدامه فى المنطقة بفعل عملائه فى الداخل والخارج، فبث سمومه للفصل بين الشقيقين السودان ومصر، بحيث يخرج الجيش البريطانى عن مصر مقابل إعلان استقلال السودان.
وحرصا من الدول الاستعمارية الكبرى الحالية والدول ذات المصلحة على إضعاف كل من مصر و توأمها السودان لصالح إسرائيل، العدو الأول لكل أشكال التنمية فى المنطقة للاحتفاظ بتفوقها فى المنطقة, لم يهمد المستعمر بل استخدم كل نفوذه لزرع الشقاق ونشر الفتن هنا وهناك؛ حتى وجدنا هذه القوى الاستعمارية تتدخل مرة أخرى؛ لتفتيت السودان من خلال انفصال جنوبه عن شماله، وتحريض دارفور على الاستقلال وتغذية روح العداء بين أبناء الوطن الواحد وليصل الفكر الصهيونى إلى تحريض دول منابع النيل؛ للتحكم بمياه مصر والسودان بغية تعطيش الشعب المصرى والسودانى، وتجويعهم وإفلاسهم.
ومن هنا نحذر من التدخلات الأجنبية التى تكتوى بنارها الشعوب، فلا تجنى من ورائها غير الحسرة والندم وأن يكون الرد المناسب على ذلك، هو توحيد شمال السودان ومصر فى دولة واحدة قوية وعلى كل المخلصين فى مصر والسودان الدعوة إلى هذه الوحدة والعمل على تحقيقها، وذلك لما فيه الخير لكل من البلدين ذوى الأصول الواحدة.
وقد تنبه الآخرون لهذا الكيان وتراثه وتاريخه، وأثنوا عليه؛ بدليل أن علماء آثار أمريكان وأوروبيين يرون ” أن أفريقيا هى مصدر الحضارة الأوروبية، وأن أثر أفريقيا فى أمريكا وأوروبا أعمق من أثر جميع الحضارات الآسيوية، فالحضارة الإنسانية سواء، والإنسان الأسود هو صاحب الفضل الأول على تطور الحضارات البيضاء فى كل العصور القديمة “ويقول البروفسير كلود ريللى: “إن تاريخ السودان فى أفريقيا، هو بمثابة الدور التاريخى الكبير الذى لعبه الإغريق قديمًا فى أوروبا”.
ولو تأملنا حال البلدين لوجدنا أنه لا يوجد شعبان جديران بالوحدة ومحتاجان إليها أكثر من مصر والسودان، وهو ما تثبته الوقائع؛ لمواجهة الخطر المحدق الذى يواجهما حاليًا, فالبلدان كلاهما يكمّل الآخر فى مضمار التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولا سبيل لحل مشاكلهما إلاّ بالوحدة, فمصر غنية بالخبرات والطاقات البشرية, والسودان سلة الغذاء للعرب وغنى بمصادره الطبيعية التى لا حد لها، وتوحيد هذا وذاك يجعل من دولة وادى النيل “مصر والسودان” مصدر خير ليس لأهله فقط بل للعالم أجمع.
فأمتنا الواحدة المصرية السودانية، تستورد الكثير من المواد الغذائية من أقطار الأرض كافة ووحدتنا كفيلة بأن تطعمنا وتطعم غيرنا وتجعلنا من الدول الكبرى.
جريدة الشعب المصرية