لم تخيب أسعار الإصدارات الجديدة ظن تلك الفتاة التي جاءت برفقة خطيبها (كما يبدو) فحسب، إنما انتزعت من شفاههما الابتسامة التي كانت تزين محياهما قبل ولوجهما للصالة ببضع دقائق. لم يعترف أي منهما أن الأسعار لم تكن في مقدورهما رغم الإلحاح الذي مارسه عليهما مرافقي وصديقي (حسن) أثناء إجرائه استطلاعاً شعبياً وسط الذين حضروا الافتتاح، لكن يبدو جلياً أن الأسعار غير المتوقعة هي التي عجلت بخروجهما خاليي الوفاض من المعرض وليس بطرفهما غير نسخة واحدة من رواية لكاتبة سعودية شابة تدعي (أثير عبد الله النشمي)، تقفت آثار كتابات الجزائرية (أحلام مستغانمي) صاحبت الامتياز في الدفاع عن العشق النسوي.
هزيمة الفقراء !!
لم تكن تلك الفتاة ومرافقها وحدهما من خرجا من عيد الكتاب السنوي دون مبتغاهما، غيرهم كثر ممن جاءوا من الأحياء النائية والقريبة على حدٍّ سواء ولم ينالوا غير (الفرجة) المجانية على تلك الفرقة الشعبية التي من كثرت طلتها في محافل وندوات الخرطوم أصبحت أعمالها التي تقدمها بلا دهشة، وبلا حضور إبداعي أو لمسة فنية، ألف كل مرتادي منتديات الخرطوم ومهرجاناتها من السكان والأجانب الحركات البهلوانية و(الصفافير) التي يطلقها أعضاؤها تحت مسمى التراث الإبداعي الشعبي، فصار ما يقدمونه محفوظاً في عقول الجميع كما الأسماء في اللوح.
لم تستطع الأكثرية من الذين حضروا الافتتاح الحصول على كتاب من المعرض الإقليمي، ومن تمكن لم يزد على كتاب واحد فقط حمله بين يديه، وخرج كأنه أراد أن يقدمه دليل إدانة على عدم منطقية الأسعار التي فاقت السوق الأسود، على كثرة التسهيلات التي قدمت للناشرين المشاركين في المعرض!
فقراء القراء خرجوا صُفر اليدين من المعرض تأكيداً على أن القراءة ليس للجميع، بل للمقتدرين الأثرياء، بحسب (يوسف أبوبكر) مواطن قدم من أمدرمان لحضور الافتتاح، (يوسف) قال إنه تكبد المشاق لحضور الافتتاح لأنه توقع أن تكون الأسعار متناسبة مع قدرات المواطنين المالية، ولكنه أُصيب باليأس عندما وجد أن سعر الكتاب في المكتبات الخارجية على قلتها أفضل من داخل المعرض، فلم يكن بوسعه غير (لملمة) خيبته والعودة لمسكنه حزيناً على تكبد المشاق.
ليتهم وضعوا عليها رقيباً!!
المأساة لم تكن في غلاء الأسعار التي اتفق حتى الناشرين أنفسهم على ارتفاعها، عندما طلب أحد المواطنين كتاباً بعينه فقيل له (30) جنيهاً فبدأ احتجاجه على السعر، لكن الناشر صرخ في وجهه مؤكداً له أن السعر في القاهرة بـ (20) جنيهاً، فبماذا يمكن بيعه في الخرطوم؟ السؤال الاستنكاري لم يدفع الزبون للشراء إنما لمغادرة المعرض برمته والتوجه صوب المقاهي التي نصبت حديثاً لبيع السندوتشات والقهوة بذات غلاء الكتب، وفي نيته أن يحتسي ما يستطيع شراءه والمغادرة فوراً دون بذل جهود في المقارنة بين العاصمتين قيل إنهما تقاسمتا فضيلتي القراءة والكتابة في عهود سابقة، لكن المحزن أن الكثير من الكتب المعروضة في أرفف المعرض كانت صورة ولم تكن أصلاً بأي حال من الأحوال، كما اكتشف المواطن (هيثم مبارك) الذي اشترى أحد أعمال (غسان كنفاني) القصصية، وعندما كشف عنه الكيس الذي كان ملفوفاً به، خارج المعرض وجده مصوراً تصويراً عادياً، وأن عدداً وافراً من النص مطموس وغير واضح للقارئ تماماً، فحاول إعادته، لكن مقربين منه أكدوا له استحالة إرجاعه لأنه فض عنه الكيس الذي كان الكتاب داخله، ولهذا سوف يرفض الناشر قبوله مهما كان تبريره للخطوة.
ماء التسهيلات الرسمية!!
كان الغلاء سيكون مهضوماً لو أن المعرض كان تجارياً بحتاً على حد قول المواطن (عيسى الأمين)، ولم تكن الدولة هي المشرفة على قيامه، وهي التي قدمت الكثير من التسهيلات للناشرين الذين قدموا من جهات عديدة للمشاركة فيه، ولكن أن تتولى الأمر الدولة بنفسها ولم تستطع ضبط الغلاء، فهذا أمر يدعو للأسى والحزن. ويضيف (عيسى) موضوع الغلاء نسف نظرية التسهيلات الكبيرة التي تقدمها الدولة لهذا المعرض منذ سنوات دون أن يساهم هذا الدعم الذي يناله الناشرون كتسهيلات جمركية وترحيل وإيجارات وغيرها في خفض أسعار الكتاب ولو قليلاً، فالكتاب بالمعرض أعلى سعرا من الكتب المعروضة في أماكن أخرى. والحديث لـ (عيسى) الذي تخوف من أن يكون ماء تسهيلات الدولة تسرب في (شقوق) السوق، مما أدى لارتفاع الأسعار حتى داخل المعرض.
المجهر السياسي
خ.ي